" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

السبت، أكتوبر 03، 2009

المكفراتيه والأيدلوجية الخوارجية

مصعب مصطفي الجز ولي / المحامي

melgzoli@yahoo.com

قال تعالي:( وقل الحق من ربكم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)
سورة الكهف الآية (29).

قال الله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )) [ النساء : 94 ] .
(لو لم تُذنبوا فتستغفروا، لخلقَ الله قوماً يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ).
}حديث قدسي{

"العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم، ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا""

} الحسن البصري{

}هبوا أن رجلا مجنونا يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء منه شيئا عن الدين المتين{
}سعد زغلول{

التكفير،بمعني تبني مجموعة من الأفكار وكل من يخالفها فهو كافر،ليس جديدا في التاريخ الإسلامي مع النزع الأخير لمعركة صفين بينما كانت تلك المعركة تتجه إلي نهايتها المحتومة بانتصار معسكر علي رضي الله عنه علي أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان تفتقت ذهنية عمرو بن العاص عن فكرة رفع المصاحف علي أسنة الرماح إشارة إلي طلب التحاكم لكتاب الله،الأمر الذي أصر معه الخوارج علي الاستجابة له،مماحدا بعلي رضي الله عنه الي إيقاف المعركة بناءا علي إلحاحهم علي ضرورة قبول التحكيم ،إلا ان أولئك الذين أصروا علي قبول التحكيم انقلبوا فجاة ونغموا عليه قبوله ذلك التحكيم،فبالتالي أصبح (الخوارج) الإباء الأوائل للتكفيريين فقد كفروا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.وكان من الطبيعي في ظل انقلابهم عليه وتأسيسهم لجبهة مستقلة تمتلك مشروعا سياسيا واضح المعالم ان يبحثوا عن أيدلوجية دينية خاصة بهم تبرر خروجهم علي الإمام علي من جهة،وتشرعن لطموحهم السياسي من جهة أخري...ولذلك يعتبر الخوارج هم أول من طرح مسالة الكفر والإيمان في التاريخ الإسلامي للنقاش،وأصبحت مسالة اتخاذ موقف معين حول تحديد معني أي منهما ينطوي بالضرورة علي موقف سياسي،فأما الاعتراف بالإيمان حسبما حددته النظرية الخوارجيه وبذلك يظل صاحب هذا الاعتراف مسلما معترفا له بالهوية الكاملة،وأما العكس وهو ماسيجعل صاحبه كافرا حلال الدم والمال،ولقد اعتبر الخوارج انشقاقهم علي علي رضي الله عنه وانزواءهم في احدي نواحي الكوفة بمثابة خروج عن "القرية الظالم أهلها ...وعدو بذلك كل من لم يخرج معهم كافرا،هو مايدل علي ان الخوارج كانوا أصحاب مشروع سياسي واضح هدفه الوصول الي الخلافة بأي ثمن بما فيه تكفير الناس،وإنهم عندما اجتمعوا في بيت زعيمهم (عبدا لله بن وهب الراسبي) لم يمض وقت قصير حتي قاموا كما تؤكد المصادر التاريخية المعتبرة بمبايعة هذا الأخير خليفة عليهم،ثم قام بتلاوة بيانه السياسي الأول وأعلن الحرب فيه علي كل من لم يرض بالانضمام الي مشروعهم السياسي وجاء فيه:
" أما بعد فان الله قد أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق والجهاد في سبيله، و تلا قوله تعالى :" إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد ".. " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " وأشهد على أن أهل دعوتنا من أهل ديننا أن قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب وجاروا في الحكم، وأن جهادهم لحق، فأقسم بمن تعنو له الوجوه وتخشع له الأبصار لو لم أجد على قتالهم مساعدا لقاتلتهم وحدي حتى ألقى ربى شهيدا "..كما قاموا بعد ذلك بتأويل آيات القران تأويلا مكشوفا يخدم مشروعهم وطموحهم السياسي ، من ذلك ان الازارقه خاصة منهم أباحوا قتل نساء مخالفيهم وأطفالهم،الذين لم يكن ثمة شرعيه لديهم يسوغون بها قتلهم الا أنهم حسب رأيهم كفارا مؤولين قول الله تعالي عن نوح عندما دعا قومه(رب لاتزر علي الأرض من الكافرين ديارا،انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولايلدوا الا فاجرا كفارا)...
كما يخبرنا التاريخ أيضا ان احمد بن حنبل كان من ابرز من ابتدع فكرة التكفير في الواقع الإسلامي وأشهر الذين ابرز في وجوههم سلاح التكفير القائلين بخلق القران ونقل الينا في كتابه (الرد علي الجهميه والزنادقة) نصه التكفيري الأتي:
"القران كلام الله،تكلم به،ليس بمخلوق ، ومن زعم ان القران مخلوق فهو جهمي كافر،ومن زعم ان القران كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من الأول، ومن زعم ان ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقه والقران كلام الله فهو جهمي،ومن لم يكفر هولاء القوم فهو مثلهم"
وبهذا ابرز ابن حنبل صورة من صور التشدد الفكري والتطرف القائم علي تكفير المسلم للمسلم ليفتح بابا لمن بعده لاستمرار علي نفس المنهجية ،فجاء من بعده ابن تيمية مبيحا مقاتلة المعطلين للشرائع ،وكانت تلك الفتوى تسمي بفتوي الياثق،وهو كتاب جنكيز خان الذي حكم به التتار بعد ان اسلموا وكفرهم ابن تيميه علي أساسه. سار علي نهج بن تيمية من بعده ابن القيم الجوزية وابن كثير الدمشقي وابن قدامه...هولاء المراجع التي اعتمد عليها تيار الجهاد في صياغة أفكاره ومعتقداته تجاه الواقع والحكام والمخالفين علي وجه العموم. وقد أعاد أحياء(أيدلوجيا التكفير) التي روج لها الخوارج في التاريخ الإسلامي،الأمراء والملوك في الدولة الإسلامية لبواعث سياسيه حتي اذا ضعف أمرهم وانفرط عقدهم لم يجدوا أحسن من تكفير كل مخالف سياسيا ومن ثم قتله، فالمهدي العباسي أول من أنشا ديوان الزنادقة يتتبع إعلامهم ويحصي ألفاظ الناس، بقي الحلاج متمتعا بحريته الي اليوم الذي ثبت فيه للخليفة وجود اتفاق سري بينه وبين رئيس القرامطة علي الثورة المسلحة والخروج علي الخلافه عندها عقدت له المحاكمة وقتل متهما بالزندقة والإلحاد،وظل احمد بن نصر الخزاعي حرا طليقا يشنع علي بني العباس في مجالسه ويعلن كفرهم لامتحانهم الناس علي خلق القران حتي جمع للثورة واعد للخروج علي الواثق فلما ادخل عليه اعرض الواثق عن كل ذلك وسأله عن اعتقاده في القران ورؤية المؤمنين لربهم في الجنة ؟؟؟ثم ذبحه وعلق رأسه وأعلن كفره لقد كان الوحيد الذي قتل من الممتحنين. وكانت جواسيس المامون ترفع إليه التقارير عن أبي مسهر محدث أهل الشام فقد كان يعيب علي المامون إسرافه وعبثه باموال ألامه فحفظها عليه المامون حتي ابتلي الناس بخلق القران فاستدعي أبا مسهر واستجوبه وعرضه علي السيف فأجاب ولكن المامون الذي كان موصوفا بالحلم والعفو الذي يعفو عن بعض الزنادقة بعد تظاهرهم بالتوبه لم تطب نفسه بإطلاق سراح أبي مسهر بل أبقاه في السجن حتي توفي بعد أشهر قلائل في سجنه وشاع انه مات مسموما. وهكذا ظل تكفير الأشخاص تكفيرا ملبسا لبوس أيدلوجية سياسية/دينية فمثلا الذين تسميهم كتب الفرق بالمرجئة(القدرية ،المعتزلة،ابوحنيفة....الخ) ماهم في الحقيقة ألا أصحاب مشروع تنويري ينم عن بذور مشروع ديمقراطي حاول ان يحرر الدين من توظيفه السياسي، فمعظم أفراد هذا التيار تعرضوا للقتل والملاحقه ابتداء من معبد الجهني وغيلان الدمشقي(المؤسس الفعلي لحركة التنوير) والجعد بن درهم الذي ذبح يوم عيد الاضحي بالكوفه سنة124هـ وصولا لحملات القمع التي تعرض لها المعتزلة وكتبهم ومعنويا عن طريق تشويه تراثهم الفكري والسياسي،وهو الدور الذي قام به مؤرخو الفرق الاشاعرة وذلك باعطاءهم للسلطة السياسية الغطاء الشرعي لما قامت به...ليخسر المسلمون إلي الأبد مدرسه بإمكانها لو تركت تتطور بشكل طبيعي ان تنجز المشروع الديمقراطي بكل ماتعنيه من تعاقد اجتماعي ودولة مؤسسات والتداول السلمي للسلطة...كماان الفكر الإسلامي في فترات لاحقه احتوي علي تيارات فكرية مختلفة أعقبت مراحل الاستعمار ولذلك انقسم الفكر الإسلامي بين إصلاحيين وأصوليين وذكر الدكتور احمد الموصلي في كتابه موسوعة الحركات الاسلاميه(ان الاصلاحيه الاسلاميه كما دعا إليها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ومحمد إقبال والاصوليه الاسلاميه،كما دعا إليها ابوالاعلي المودودي وحسن البنا وسيد قطب وأيه الله الخميني ،تختلفان أساسا في بناء نظرتهما حول المعرفة وحول سبل ومناهج التوصل اليها) انتهي كلامه....تلك المرحلة ومانتج عنها من صراع جعل كل تيار من تلك التيارات يبحث عن وسيلة لوقف الأخر في عمليه صراع فكري مستمر ،الاصطلاحيون يتميزون بالوعي من خلال فتح الحوار بينما بحث المتشددون عن منهجية تختصر عليهم التعامل مع خصومهم فاختاروا في الإسلام فكرة التكفير وجعلوها منطقة متاحة للجميع...لقد أدي تساهل المتشددين الإسلاميين حول الخوض في التكفير إلي جعله منطقه متاحة للبسطاء الذين لايدركون الكيفية التي يتم بها التعامل مع منهجية خطيرة تؤدي إلي خروج الانسان عن الدين وهذا التساهل كانت نتائجه كارثيه علي جميع الأصعدة ،السياسة والاقتصادية والاجتماعية وحتي العلمية، وبالتالي ظل المكفراتيه المعاصرون من بعدهم الا أصحاب مشروعات سياسيه بحته،يسعون الي تكفير مخالفيهم من اجل غرض سياسي وليس شرطا في المشروع السياسي الذي يبتغياه هولاء المكفراتيه المعاصرون ان يكون مبتغا من اجل الوصول الي السلطة .بل قد يكون قسر الناس علي رؤيه واحدة هي رؤيه المكفر ومن ينطق باسمهم أو رؤيتهم تكفي بصفتها مشروعا سياسيا بامتياز،والا لو كان الهدف دينيا خالصا لاعترفوا لمن يكفرونهم بما قرره الله تعالي قبل أربعة عشر قرنا من الزمان من حرية العقيدة ناهيك عن مجرد الاختلاف داخل حظيرة الإسلام.
فقضية التكفير لايجادل احد في خطورتها وإبعادها علي الإسلام والمسلمين أولا،وعلي غيرهم ، واللافت للنظر ان هذه" الموجة" لم تعد خاصة بملة من الملل، ولابامة من الامم،فشباب اليهود والحاخامات يكفرون العلمانيين من اليهود،وقاتل "رابين" الطالب الجامعي يتهمه بالكفر مستندا لبعض فتاوي الحاخامات ،وكما يري د. رجاء جار ودي،فان في كل دين أصولية تكفر،وبين العلمانيين من هو أصولي في علمانيته، وهم يكفرون غيرهم وطنيا كما يقول الدكتور رفيق حبيب ، عالم الاجتماع المصري،وفي الهندوسية مكفرة،وفي اليمين الأمريكي مكفرة، أنها موجة تجتاح العالم، ولذلك دعا الدكتور نعمان عبد الرازق السامرائي في سفره القيم الموسوم (التكفير في القران والسنة قديما وحديثا) الشباب ان يتركوا خطابهم الوعظي "الفوقي" ويتعلموا كيف يخاطبون مجتمعاتهم علي اختلاف تنوعها.
وأخيرا التكفير هو العدو الأول لتنقية الثقافة الدينية والتراث من الأفكار المتطرفة،ولذلك فان العلاقة بين التكفير والمراجعة التصحيحية الضرورية للخروج من هذا المأزق،هي علاقة عكسية ،فكلما زادت وطأة التكفير كلما تضاءلت قدرة الإصلاحيين علي التصحيح والعكس بالعكس،والنتيجة واضحة فما تكفير يكرس فهما بشريا ثبت عبر القرون انه عرضه للأخطاء المدمرة،أو تسامحا ونقد بناء ينموا في رحابه الإنسانية وينسجم معها ليخلص البشرية من مأزقها المستمرة ويطلق طاقات البناء المختزنة فيها والتي استهلكت كثيرا في الحروب الدينية المزيفة.