" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الثلاثاء، يونيو 01، 2010

الكنابي ....بيوت الصفيح في الجزيرة.......

كمبو طويل .....بشري الفاضل

توجد في عمق الجزيرة، حيث القرى متناثرة بلا حصر عدد النجوم في السماء، (دارفور أخرى!) يعيش سكانها الوافدون لمناطق الانتاج هنا في (كنابي). و(الكنابي) جمع كمبو. وهي مساكن لا تحترم كرامة الإنسان حلت مكان الأشجار التي قطعها سكان الجزيرة عن آخرها طلباً للوقود في فترة ما قبل الغاز، وطلباً للمال في فترة انقطاع موارد الزراعة.

(كمبو طويل) هو أحد هذه (الكنابي). وقد خبره أهلي بمنطقتهم وسط الجزيرة. وهو شريط طويل يمر فوق ظهر الترعة، وأنت خارج من قنطرة ود البر إلى ما بعد قرية زنقاحة. شريط طويل من القطاطي تمسك برقاب بعضها البعض. فإذا خرج طفل من قطية أهله، في غفلة منهم، فمصيره الغرق! ولك أن تقارن غرقه بغرق طفل من سكان البيوت الفاخرة في القليل من المدن السودانية، فيبدو الحال، بجامع الغرق هنا مع الفارق طبعاً، كما لو أن حوض السباحة، في مثل تلك القصور، مقام قبالة الغرف مباشرة، لكن بدون سياج، فيخرج الطفل إلى حتفه. (تخيلت ذلك لكن أخي قال لي إن طفلاً من كمبو طويل قد غرق في الترعةبالفعل قبل سنوات ووجدوا جثه محبوسة قرب الكبري القريب)

هذه القطاطي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. دعك من الشفخانة أو نقطة الغيار، فهذه شطحة لن يغفرها لي سكان القرى المجاورة لكمبو طويل! لكن لا توجد حتى أماكن لقضاء الحاجة! وكان الإنجليز على أيامهم، عندما كانت قرى الجزيرة كلها عبارة عن قطاطي، ينشئون لكل قرية مرحاضاً جماعياً، لئلا يستعين السكان بالترع مباشرة، فتنتشر البلهارسيا. بل وكانوا يوفدون مفتشاً للصحة يقيم بتلك القرى لتوعية السكان في شئونهم الصحية.

سألت مرافقي، وكنت قد غبت عن الديار لعقد ويزيد، ما اسم هذا المكان؟! فأجابني: كمبو طويل. وهالني أن عدد سكانه يضاهي عدد سكان قرية بكاملها. وثمة شريط آخر أطول، يمتد ما بين قرية تنوب وقرية المريبيعة. وسكان الكمبو من هذا النوع الجديد الذي انتظم كل ترع الجزيرة هم العمال الزراعيون الوافدون، غالباً، من دارفور. ثم صاروا يشاركون المزارعين أصحاب الأرض بالوكالة، فيقومون بالعمليات الزراعية كلها، بصلاً، مثلاً، أو فولاً، ثم يقتسمون معهم المحصول. لكن، بينما قامت (الكنابي الطويلة) على امتداد الترع بالجزيرة، وربما المناقل، نمت مساكن المزارعين، خلال عقود قليلة، من قطاطي القش، لقطاطي القش والطين، فبيوت الجالوص المربعة بدون حيشان، ثم ظهرت الحيشان المسورة بالشوك أولاً، ثم المسورة بالجالوص، ثم الطوب اللبن، إلى أن أخذت البيوت تبنى، مؤخراً، بالطوب الأحمر المحروق، ودخلتها المياه والكهرباء والهواتف. باختصار جرى تحديث مساكن القرى بالتدريج خلال نصف قرن، لكن (كمبو طويل) وإخوانه ظلوا على حالهم منذ إنشائهم.

غير أن هذا التفاوت ليس هو الوحيد هنا. فثمة نوع آخر من (البيوت)، إن جاز التعبير، هش وأسوأ من هذه الكنابي؛ فهل الأسمال البالية التي يقطن تحتها البدو بيوت؟! وهل قطاطي وكرانك القصب وسط الحواشات والجناين بيوت؟! وعموماً، إذا القينا نظرة على كافة الإنشاءات السكنية في السودان، لهالنا هذا التفاوت الهائل بين الذين يملكون المال والخبرة والذين لا يملكون. فالمسألة ليست فقراً فقط، بل فقر ونقصان خبرة ومعرفة أيضاً!

السودان تسكنه قبيلتان فقط، لا عدة قبائل: قبيلة مستقرة ببيوت تلتزم الحد الادنى للكرامة الانسانية، وإن كان معظم أفرادها فقراء، وقبيلة غير مستقرة لا بيوت لها، أو أن بيوتها لا تقيها هجير السودان، وأمطاره، ووحوشه، وأمراضه. هؤلاء الأخيرون هم الذين يجب البدء، عاجلاً، في توطينهم في مساكن تليق بإنسانيتهم، لا الاكتفاء بالتحسر، شعرياً، على بؤسهم! وسينجح الساسة، أيما نجاح، في استقطاب الأغلبيات، إن سعوا لحل مشاكل الذين لا يعرفون كيف يطالبون بتصحيح أوضاعهم البائسة، أي المصابين بالبيات الاجتماعي والسياسي. فالعبرة ليست في الالتفات لمطالب الجماهير فحسب، بل في الالتفات لمن لا حيلة لهم للمطالبة، وانتشال مطالبهم من جوف الطين!

ليست هناك تعليقات: