" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الثلاثاء، يوليو 07، 2009

قراءة في عوالم أبّكر آدم إسماعيل الروائي
رواية الطريق إلى المدن المستحيلة :
تنتظم هذه الرواية في أربعة فصول هي: اللعبة الصغيرة: سيرة أولاد قرف- اللعبة الخطيرة: سيرة المدينة- اللعبة الكبرى: سيرة السراب- لعبة الزمن: سيرة الحلم.والرواية تقوم إذن باللعب والسيرة. فلنسرعْ إلى القول: سيرة البلاد والبشر: السيرة المجتمعية، مهما خلت من أو انطوت على الذاتي. ولنسرع إلى القول أيضاً: إن هذه الرواية تستهدي بما هو أسّ لهذا الفن ولكل فن، وبما ينطوي عليه من نظر إلى الحياة بحلوها ومرها. والعلامة الفارقة للعب هذه الرواية هي السخرية التي تفتقر إليها الرواية العربية بعامة، على الرغم مما أبدعه إميل حبيبي وغازي القصيبي، أو يسعى إليه آخرون مثل محمد أبو معتوق والميلودي شغموم وأمير تاج السر...يقدم الفصل الأول من هذه الرواية عصبة التلاميذ في المدرسة الشرقية الذين يذكّرون بعصبة المسرحية الشهيرة مدرسة المشاغبين. وستتابع الرواية مصائر أولاء عبر التحولات العميقة للمجتمع السوداني من انقلاب عسكري إلى انقلاب.إنهم القادمون من القاع الريفي والمديني، مقابل عصبة (أولاد كموش) من أبناء الذوات، والتي ستتلاشى أمام (أولاد قِرِف) الذين سيقل عددهم في المدرسة، مقابل تكاثرهم في المجتمع. ويتصل بأولاء من أبناء الجنوب السوداني مايان دينق ابن ضابط البوليس وجيمس آيول وبول أشيول. وإذا كان عثمان شربات- من العصبة يستغرب وجود جنوبيين في المدرسة، وإذا كان أيضاً أحمد سالم أبو خميس يستذكر من قريته اشتهار الجنوبي بلقب (الجنقاي) وعمله فقط الرعي أو التحطيب أو الشجار.. فإن ما يؤرق جومو- الذي سيستأثر بالكثير من الرواية. هو أن الجنوبيين مسيحيون، ولذلك يعتزم هداية صديقه جيمس آيول إلى الإسلام، ويستعير منه التوراة، وسيكون لقراءته لها فعل حاسم في تكوينه الروحي.من الكتابة على جدران المراحيض إلى مغازلة فتيات المدرسة الأميرية، والتدخين في الفصل، والتردد على حانة (تام زين) وماخور (زوبا).. تتوالى سيرة أولاد قرف في المدرسة، بقيادة علي إسماعيل (الكضاب) الذي اكتسب لقبه بسبب ما كان يروي للعصبة من قراءاته ومشاهداته قبل أن يتقاعد أبوه وتهدأ تنقلاته. وعشق الكضّاب لزهرة هو أيضاً امتيازه على العصبة. ومثل هذا من غرارات المراهقة سيكون ما بين جومو ونازك ابنة مدير المدرسة، مما سينسج مؤامرات العصبة وزهرة وصديقاتها ونازك وشقيقتها الكبرى سلمى.على الحب بين جو- مختصر جومو ونون- أي نازك- سيقوم رهان الرواية. فقد "انبجس النداء الأنثوي الذي كان يتعرج بين الأوامر الأزلية وكهوف التغييب الأصم، ليجد نفسه دفعة واحدة في البرية". وهذا ما سيشكل عصب حياة العاشقين، ابتداءً من مرض جو بالملاريا إلى مسلسل الرسائل، وشكوى زهرة من المدرسة "أو من السجن الإحنا فيهوه" كشكوى نازك وشقيقتها من المنازل- السجن.بانتقال المدير زين العابدين إلى كسلا- الفصل الثاني- تنعطف الرواية بالعاشقين منعطفهما الحاسم الذي سينعطف بالرواية أيضاً إلى الاشتغال بالتوازي على خط نازك وأسرتهما ومن سيجدّ، وعلى خط جو والعصبة ومن سيجدّ، فيما السخرية تتفجر، وهي التي نرى فيها من قبل (شعب جمهورية قرف) و (جنرالات قرف)، وقراءة العصبة لرسالة نازك إلى جو، استناداً إلى (قوانين الاشتراكية الطبيعية) وتجاوزاً لـ(نزعة الملكية الفردية). ومن قبل نرى (قانون الحضور المنزلي) في بيت نازك، و(طاولة المفاوضات) بين نازك وسلمى التي تحوك مؤامرة حضور حبيبها طارق إلى المنزل.. ثم يأتي وداع المدير في موكب "كموكب ديكتاتور في عيد انقلابه الذي اسمه الثورة" وتأتي خطبة المدير وبلاغته وقد ترقى في الاتحاد الاشتراكي- الحزب الحاكم- من فئوية المدينة إلى أمين المنظمات الفئوية والجماهيرية بمديرية القاش..يلحق جو بالعربة التي تنأى بحبيبته، ويفتضح أمرها، ويقع في المرض، وتفشو في المدينة حالة من العشق الجماعي له، ويغدو ونازك أسطورة، رمزها الحرفان الأولان من اسميهما (nj: نج). وبعد هرب جو من المستشفى إلى مرتع زوبا التي تعمل ساعتها البيولوجية بالتوقيت القمري، ولها شهورها الخاصة، ستعني العاهرات- الشكش بالعاشق المدنف المسرع إلى خيانة الرجال المحتومة. وسيلي عودته إلى المدرسة الاحتفال السنوي الذي يقدم فيه أولاد قرف مسرحية الشماسة، بإشراف الأستاذ عساكر الذي يغطي أمام مدير المدرسة على أفعال العصبة، إيماناً منه بجوهرهم المتمرد النظيف.في الطريق إلى المسرحية تقدم الرواية ما تحمل والدة جو لابنها من رمل قبة الشيخ أبو مفاريك، والحجاب (محاية مركزة) التي كتبها الفكي إساخا (إسحاق)، وكما تقدم قصة خال جو الزعيم الطلابي الذي جاب البلدان، ورفض الزواج الذي يهيئه أهلوه له من خدوج، وتزوج من زميلته في الجامعة، ثم مات في حادث غامض.تستوفي مسرحية الشماسة خمس عشرة صفحة من الرواية. وسيلوّن ما يؤول إليه جو من كتابة المسرح، أسلوبية الرواية، كما تلونها المتناصات من الغناء الشعبي ومن القصة ومن المفردات المحلية التي تستغلق غالباً على غير السوداني، كما يستغلق عليه كثير أو قليل من الحوار المكتوب العامية فقط، وفي هذا كله ما يجدد إشكالية الخصوصية والعامية- بل واللهجية- التي ما فتئت تنتأ منذ (عرس الزين) للطيب صالح إلى آخر رواية كتبها مغاربي.تستقي مسرحية الشماسة قاع المجتمع، وتهتك أسرار المدينة. ويحضر المحافظ العرض فيكون للمدينة (يوم النظافة العالمي) والمبارزة بالحناجر، وتكون هجمته على الناس في خطبة يقابلها الناس بالتصفيق الذي ظنه إعجاباً، لكن العكس هو الحقيقة، كما سيسّر السارد في نادرة من نوادر إفساده للسخرية بفظاظة حضوره.يرجم الشماشة الحقيقيون المسرح، ويغادر المحافظ، وتبرز (الجسارة الأنثوية) باندفاع زهرة وعزة وأنهار إلى الكوارل، ويستوي العرض بإنشاد الجميع، بعدما تألقت أسطورة المدينة في الغناء ندى عبد الواحد، ومن معها في فرقة إفريقيا الجديدة، ثم يأتي بالانقلاب العسكري، فيفر بعض قادة الاتحاد الاشتراكي والمنظمات الفئوية، حتى تبلغهم (شبه جملة) الرئيس القائد التي فلقوا الناس بها، فيعودون وقد خابت المحاولة الانقلابية، وبدأ حملة المحاكمات والإعدامات. وفي المدينة التي ليست غير (كومبارس أو كورس للسيدة الخرطوم) كبقية الأقاليم، يعتقل الأستاذ عساكر، ويقتل، فينعى باسم الاتحاد الاشتراكي وباسم المدرسة، لكن الحيلة لا تنطلي على الطلاب والناس، فيتظاهرون ويرجمون المؤسسات الحكومية، ويُصرع منهم ثلاثة ويختفي طلبة، ويغدو الأستاذ عساكر أغنية على كل الناس.هنا يهرب جو من المدرسة والمدينة، ويبدأ الفصل الثالث بلقائه في القطار بعبد الله إسحاق، وينزل في كوستي، ثم يتابع إلى الخرطوم ويعمل في البناء، ويكتشف مقام نازك من الجريدة التي تنقل أخبار أبيها، فيمضي إلى كسلا، ويرشده صبي إلى بيت المدير "الزول الكلاّم لّمن الرئيس جا". وعلى الرغم من أن جو لم يلتق نازك، فخبره يتناهى للمدير الذي يأمر بإبعاد المتبطلين من المدينة، وكان قد بدأ بمسلسل (الانفتاح الأحلامي) منذ انتقلت البلاغة من دهاليز المدرسة إلى دوائر المنظمات الفئوية، وصار المجد والسؤدد اللذان تغنى بهما في عهد التدريس، أكثر تعييناً: رشوى وصفقات وأطيان، ستتدرع بالدين وتكبر وترمح بابنه صلاح من موظف كبير في الرعاية الاجتماعية إلى موظف في بنك الجماعة (الإسلامية) التي باتت شريكاً في الحكم، وستشكل (حزب اللافتة)، فينضم المدير إليه وقد أقلعت به وبسواه شركة البركات للتجارة والاستيراد، والتي ستتطور من شركة محدودة إلى غير محدودة إلى ذات فرع وراء البحار.من (الشك المنهجي) في المدرسة يتطور الحال بالمدير إلى (الاعتقال التحفظي للمنقولات الخاصة) ببنيته، إثر افتضاح أمر جو ونازك، إلى متابعة الجراثيم (مطالعة البنتين) والفيروسات (رسائلهما) إلى سلم السلطة والمال والمجلل باليافطة الدينية.. هكذا ترسم سيرورة المدير سيروة المجتمع السوداني. وبالموازاة مع متابعة الرواية لهاتين السيرورتين تتابع شأن جو وصداقاته الجديدة مع بائع الترمس عبد الله إسحاق، الذي يجنّ، ومع الديكوريست عامر الذي سيهرب بعد اعتقال جو. كما تتابع الرواية بالتوازي وبالاشتباك مصائر أولاد قرف، فأبو خميس صار واعظاً، وشربات صار ضابط شرطة، يحاول أن يتجنب ضرب المتظاهرين، وشطة صار هداف الدوري، وبطيخة صار تاجراً لا يبخل على الأسر التي تتهاوى بتهاوي البلاد، وندى عبد الواحد صارت (شهبرة لهبرة) ونجمة الأغاني الهابطة التي يرى جو أنها أغان تصعد من القاع، والهبوط السوء هو فيما تصعد إليه.يتصل جو بذويه في الخرطوم، وتنضاف إلى شخصيات الرواية الخادمة عويضة في بيت وابن الخال ماجد عبد الرحمن الذي ستعري السخرية تقدميته كناشط في الجبهة الاشتراكية التقدمية، ومعبر عن (البرجوازية الاعتباطية). وستدفع القراءة وكتابة المسرح ومعمعة العيش بجو، مثلما يدفع به حب نازك ومراسلاتهما، إلى تكوين حزبه الشخصي من أولاد قرف المتكاثرين في قاع المجتمع. كما سيشكل مع علي إسماعيل وأنهار وآخرين جماعة الرصيف (اين رسمي أبو علي؟)، إلى أن تأتي القاصمة في الفصل الرابع.فنازك مضت إلى مصر لتتابع الدراسة مع شقيقها الدكتور عماد النقيض لصلاح. وفي عودة لعماد ونازك تغرق الباخرة ويقضيان، فتنظم ذكرى نون سنة بعد سنة زمن الرواية التي كانت من قبل تنظمه بالشهور والأيام. وعبر ذلك سيُسجن جو وعلي إسماعيل لحين، ويكتب جو المسرحية التي تحمل الرواية عنوانها، بينما يهاجر علي إسماعيل، ويكتب لصديقه عن الغزاة الداخلين كالغزاة الخارجيين. وبكوابيس جو- كوابيس السودان تنتهي الرواية بما يتوج المسار المروع على أي مستوى.
* * *
إذا كانت الرواية بذلك كله تقدم- كما كتب صنع الله إبراهيم على غلافها الأخير- المشهد السوداني المعاصر برؤية ساخرة، فمن المهم أن نشير إلى غياب فعل الحرب في الجنوب فيما قدمت الرواية، ومن ذلك- روائياً- غياب الطلاب الجنوبيين الذين ابتدأت بهم، ومن الجلي أيضاً أن التقية جعلت الكاتب يتحاشى تعيين الأسلمة التي عرفها السودان منذ عهد النميري. ولكن الأهم هو أن أبكر آدم إسماعيل قدم عملاً متفرداً، ليته يحظى بمراجعة لغوية توفر عليه تشويش الأخطاء الإملائية والنحوية.

ليست هناك تعليقات: