" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الثلاثاء، يوليو 21، 2009

شلبية
من مجموعة (القمر جالس في فناء داره)
علي المك
صباح الجمعة سمعت صوت نسوة يبكين ويولولن كمن فقدن عزيزاً بلا أمل عودة، أدركت أن صاحبك في البيت كان مخموراً ليلة الخميس، و أنه ربما عاشر امرأة أو امرأتين .. لأنه تململ في سريره، و كشف عن وجهه الغطاء ثم همهم بكلمات لا تبين، ولكنها تنم عن عدم الرضا. ثم نهض وجلس على السرير، اعتمد رأسه بين يديه، وزفر في حرقة، ثم رقد ثانية وسمعت شخيره بعد ثوان قليلة.وتعالى الصياح و النحيب، ويبدو أن عدد النادبات يزيد مع كل دقيقة تمر، ثم عرفت أن عبد الرحمن الحنفي قد مات. كان عبد الرحمن الحنفي في رؤوس أبناء جيلك يمثل نوعاً فريداً من الناس، كان رجلاً واسع الثراء، قليلاً حظه من العلم، يعامل أبناءه في قسوة، ويأخذ أزواجه بالشدة، ويمنعكم لعب الكرة أمام بيته بلا سبب، وكرهتموه بلا حدود.وها أنت تسمع الناعيات يندبنه في غير حماسة، كما يؤدين و اجباً .. مرت على رأسك صور من الحياة التي عاشها ، كانت ضيقة و قاتمة ولم يكن عندك صلات ود مع أبنائه، كان ابنه عثمان زميلك في الكتاب.. ولد قوي البنية، ولكنه بليد بمفاهيم زمان، ولغة زمان، والناظر يكرهه وهو مضطر لاستبقائه في صفوفكم.عبد الرحمن الحنفي أيضاً تزوج فتاة في سن ولده عثمان، أبوها عامل يسكن الخرطوم بحري، حدث هذا قبل شهرين من موته، البنت أسمها شلبية، رأيتها مرة في بيتكم، هي رائعة الحسن، و أجمل ما فيها جسدها، استرعت انتباهك لأنها ترمي الثوب إلى ما بعد صدرها، مثلما هي تعلن عن بضاعة طيبة صارت من نصيب مشتر شحيح.ورغم الخوف الذي انغرس بقلبك منذ الصبا من ذلك الشيخ، لم تحول نظرك عن شلبية، وهي بذلك تحس، تنظر إليك ثم تغمز بعينها. و أحياناً تخفي شفتها السفلى في فمها مدة ثم تخرجها وتمس عليها بلسانها، وفي ذلك ما يثير غاية الإثارة.ويوم مات عبد الرحمن الحنفي أشفقت على شلبية من مصير مظلم، من أخت المتوفي العانس "ستنا"، من ابنه عثمان، خفت أن يثب عليها كل من جهة فيسلبونها أمنها وعزتها. هي عصبة تريد أن تبلغ المال وتستحوذ عليه.وكان مشوار المقابر منهكاً، وصلتم بجثة الشيخ إلى هناك، وقد تعفرت أعضاء جسدك بتراب أم درمان ، صرتم كالذين ساروا في قلب العاصفة.. مراسيم الدفن طويلة وثقيلة و مملة، عدت أدراجك و الشمس تسيطر على منتصف السماء، والحر متعب.وصلت إلى الحي منهكاً، جريت إلى فراشك، ونمت.. كنت تحلم بشلبية كانت تبتسم لك، تغمز بعينها، ثم تكشف ( أنت يا أبن الشيخ عبدالغفار.. أنت سبب كل المشاكل) أمسى قريباً منك، قريبا جداً.. سحابة الغبار التي كانت ترابية اللون، وكانت سميكة ذات ثلاثة أبعاد، بدأت في الزوال، وظهرت السماء من فوق الزقاق زرقاء عريضة، لون واحد ممل، متصل الملل ، عندما رفع الحاج عبد الرحمن الحنفي يده، وضغط على لسانه، في حقد وغضب أدركت أن الموقف ليس مما يحسن فيه الكلام، وتذكرت أن الهرب سهل لو أنك شرعت فيه، ثم أنك تراجعت خطوة ، ثم خطوه، وأطلقت للريح ساقيك.أنت لا تلعب ( الدافورى) الآن كبرت، صرت تدخن وتلهث لأي مجهود، وتتعب حتى لو لعبت عشرة ( ويست) ، وعبد الرحمن الحنفي مات .. " ليس في الموت شماتة يا ولدي" . كان أبوك رحمة الله علية يردد هذا الكلام دائما دائما، نعم عبد الرحمن الحنفي مات، وأنت لا تستطع لعب الدافوري، ولكن الزقاق ما زال كما هو: متعرج، قذر جداً، على جانب منه جدول تشقه البلدية كل خريف لتصريف مياه المطر ولكنه دائما يقصر عن بلوغ ذلك، وتركد فيه المياه، ويسكن الناموس ويوزع جيوشه المطنة بالعدل على البيوت جميعاً، الفخيمة والمتواضعة.. ذلك هو الشيء الذي لم يتغير، لدغة الناموس تؤلم بالقدر نفسه، والصبية مثل عهدك ذاك القديم، الدافوري في الصيف و (البلي) في الشتاء، وأنت تكره (البلي).. حسين (مترار) كان دائما الفائز بكل الجولات يغنم كل (بلية) عند أقرانك، كان ماهراً بيديه كما هو الحال بقدميه.. وحسين (مترار) الآن موظف بسيط، غير أن ألأمة كلها تغرفه، فهو ساعد الهجوم الأيسر لفريق البلاد.وبيوت الزقاق تبدل بها الحال،فإن كان بيت الحنفي فيما مضى "إيوان كسرى"، فهو اليوم رمادي الجدران، قنعت مبانيه التي كانت تفرع عمدان النور طولاً، بالانزواء، بعد أن شيد (سيدراوس) النقادي بيتاً من ثلاثة طوابق، في مكان بيت (فضل العاصي) القديم وأنه من الطوب الأحمر، والحجارة الملونة، وغرس في أركانه الأربعة أشجار البان.بيت عبد الرحمن الحنفي فتح لجمهور المعزين، مثل قصر ملكي زالت سلطة أهله بثورة شعب، ديوان قديم الطراز غير أنه متين البنيان، مترابط.. تصعد البراندة بدرج، وشجرة ( نيم ) عجوز متصابية في المدخل، ثمة ما سورة كبيرة تخترق الجدار مما يلي الزقاق.. ليس هنالك أثاث في الديوان بل سجاد عجمي ثمين: " الفاتحة .. اللهم أحسن إليه" . . رجال يقومون ويقعدون،"القهوة يا ولد ... الماء ..." ..كان ولده عثمان سيد الموقف، خلف العبء عليه وولى .. .وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ..) (وإنك لعلى خلق عظيم ..) آيات تتدلى من الجدار في داخل الديوان.. رجل عجوز يتمايل شمالاً ويميناً تماماً مثل شجرة (النيم) عيناه في نصف إغماضة.. يردد دعاء أو ما يشبه الدعاء، "بنيان زمان قوى ومتين" قال عبد الباقي الحلاق مثلما هو يهمس لأحد المغرين .. البيوت القديمة، تتكون باختصار من ديوان للتاجر الموسر، بالطوب الأحمر، مطلي من الداخل كأحسن ما يكون الطلاء.. يساره جناح النساء المبني من الطين، هكذا الحال دائماً .. وتجاور الديوان في حياء وتواضع حجرة الطين الرطيبة،(أم شبابيك خضر) ." لا بد أن شلبية هناك ، لا بد أنها تنام على صدر الشيخ كل ليلة.. أسمع لا تقل مكرهة، فالنتيجة واحدة، طالما خلعت ثيابها، ورقدت رقدة مطمئنة، أو غير مطمئنة إلى جواره ،فالنتيجة واحدة، وأنها امرأته وخليلته "الزواج دعارة يحميها القانون .." قال طالب متفلسف هذا الكلام، طالب من قسم الجغرافيا وليس الفلسفة، وربما كان على حق.جناح النساء يفور بالنساء، من عجب ألا يرتفع بالبكاء صوت، وأن يكون الهدوء طابع ذلك المكان، أين صوت (ستنا) شقيقته أين ؟ وأين؟ إنك كثير الاهتمام بعبد الرحمن الحنفي، ليس هو أول الميتين ولن يكون آخرهم ..بيتكم : بيت الزبالة يلتصق ببيت الحنفي من زمان بعيد، مثل وشم شائه على ذراع بض، من فوق هذا الجدار، حينما يزنق الصيف، تأتيك رائحة الصندل والصندلية، تسبح في الجو الساخن، حين تهب نسمه شحيحة فاعلم أن في حياتها القصيرة موكب عطر، لمن تتعطر شلبية؟ لمن تتضمخ بالطيب؟ لفصل الصيف؟ هل للصيف ذراعان يضم بهما الجسد العاري؟ أم للصيف فم يهوى التقبيل؟ عبد الرحمن الحنفي في ليلة الصيف سعال .. من أدراك .. الجدران تغطي أفعاله، من قال أنها مكرهة؟ ثم هل تفسر نظراتها - حين حلت بينكم ذات يوم - أنها وله ووجد ورغبة؟ ومن أنت حتى تسعى إليك بكل فتنتها، بكل جمالها؟ لا مال لديك ولا جاه والمستقبل في كف الغيب.في الحي الصغير يتنفس الناس كلاماً، ويلوكون سيرة بعضهم البعض قبل أن يجف الميت في قبره، ربما قبل أن يسأله الملكان. امتلأت أفوه الناس كلاما: "خزينته الحديد خاوية وضعت ( ستنا) يدها عليها، أفرغت ما بجوفها .." كلام يجر كلام: " أين أنتم : شلبية من قبل ستنا أخذت الفلوس دفعتها لإبراهيم صاحب الدكان عشيقها.. أين أنتم؟ .. ما زال إبراهيم يضحك حين يذكر تعليق عبد الباقي الحلاق "تعرف يا أبو خليل محلك طالب في الكمبوني أنت ما شبه الزيت والفحم".يا وحشة ليلك يا شلبية ، حتى أن كان الحنفي فارسا حين يعم الليل الكون والكائنات، فذلك سر في القبر مدفون، سر لم يجف مع الميت بعد، ولن يعرفه أحد أبداً." عينها طائرة .. تشتاق إلى الحرية بعد أن تنقضي أيام الحبس فتطير حرة بلا حدود أو قيود" تفكر: الجدار طويل، يقف بلا رحمة، ما جفت أوجاع الميت في قبره، هذا أسبوع فات، والثاني.. بيت الحنفي قد صار إلى قبرة أخرى، لا صوت ولا همس ولا حركة، والعطر السابح عبر جدارك غاب مع الميت في قبره، ولا صندل ولا صندلية. "والله لو تاجوج لبست ثوب حداد ما عادت تاجوج.." حين تسمع ما قاله إبراهيم سيد الدكان لخاصته ذات مرة .. تدرك أن هناك أشياء وأشياء بعيدة عن إدراكك: وتصدق شكوك "ستنا" النحيلة مثل عود يابس.عن صدر وذراع وساق ، مددت يدك نحوها، تريد أن تحيط بها فلا تتركها، وفي اللحظة التي كدت فيها أن تنال ما تتمنى، استيقظت ولقيت - بعد نظرة عابرة إلى الفراش- أنك أتيت شيئاً منكراً.خفت حدة العويل، مات الصياح في الشفاه. شلبية في ذهنك عالقة.. ما تزال آثار اللقاء الأول تداعبك، تشغل منك النفس أملاً وزهواً، ولم تتكرر، جدار عال يفصل ما بين بيتكم وبيت عبد الرحمن الحنفي، فيما يلي الشرق، في الليل تهرع إلى ذلك الجدار بحواسك، تأتيك رائحة طيبة قوية، عبر الليل مع الهواء تدرك - بلا عناء- إن شلبية تتعطر، تتصورها نائمة في غير ما رغبة على صدر الشيخ، أو لعلها ترسل من ذلك العطر رسولاً إلى من تهوى، أو من يستطيع أن يكسب صيحات جسدها المتمردة.أنت لا تعرف إذا كان قلبها قد تعلق بك. ومن أنت يا مسكين؟ يا طالب السنة الأولى بالجامعة، المهدد بالفصل، وفي سلوكك الدراسي والسياسي مما يبشر بذلك، وينظر الناس إليك - على ألأقل أهل الحي - أنك ولد صغير .. تذكر يوماً من زمان مضى .. الدافوري حار في الزقاق ، حسين (مترار) كالصارقيل، يفعل بالكرة ما يشاء، يستطيع أن يجعلها بين أسنانه، ويسجل اصابة، والغبار سحابة غبراء معلقة فوقكم، والعرق على أجسادكم.. شفع غاية في النشاط والحيوية.. الغبار داخل الديوان منعنا النوم، منعنا الحركة، منعنا الصلاة، منعنا التنفس .. "أعوذ بالله" قالها الحنفي عندما خرج ، كان يسعل بقوة، وقتها حين وقف على مدخل بيته المشرف على الزقاق مسبحة في يده، حافي القدمين طاقية (مكنة) على رأسه تستقر على آثار شعر كان أسود، واستحال أبيض .. "أنت يا ولد شيخ عبد الغفار .. أنت ..".أنت بالطبع المقصود بذلك الكلام، ليس للشيخ عبد الغفار ولد سواك، هتف بأعلى صوت: "أنت يا ولد شيخ عبد الغفار .. يا قليل الأدب .. أبوك الله يرحمه ويحسن إليه كان عالم وفاضل .. صحيح النار.بتلد.. الرماد".. تجمدت في مكانك، خاصة وقد شرع الحنفي نحوك .. نزل من مكانه ، خاصة وقد شرع الحنفي يتحرك نحوك .. نزل من مكانه في مدخل الدار، وهو يقصدك، وربما صفعك.. الولد حسين (مترار) لا يرهب أحداً، مرق من يسارك، مثل البرق سريع، ومراوغ (صارقيل) يتلوى، وأحرز إصابة.. سمعت لاعبي الفريق المنافس يصيحون بصوت واحد "قون .. قون"، وفي لحظة حاسمة تنبه الجميع لخطورة الموقف، وتسمر كل الأولاد في أماكنهم، لحظة حاسمة ثم لاذوا بالفرار "سوف ابلغ البوليس يا ابن الشيخ عبد الغفار ستكون سبب في زيارة لوري البوليس لهذه الحارة ... أنت السبب..".عبد الرحمن الحنفي نفسه يرهب البوليس على طريقته الخاصة، ففي أيام الخريف ذات عام، أمضى الحنفي شهراً بالسجن لأنه باع العيش بخمسين قرشاً أكثر من التسعيرة، وبما أن الحي لا يكتم السر، فإن خبر غيابه فاح وانتشر، حين افتقده المصلون في صلاة الصبح لفجرين متعاقبين، جعلوا يحدسون ولا كوا سيرته بدلا عن (دلائل الخيرات) وسائر الأدعية." قتلتيه يا فاجرة .. يا مطلوقة .. يايا .." كان صوت (ستنا) يأتيك من ناحية بيت الحنفي، صوت حاد، كما هو نحيل مثلها، عال واضح النبرات .. لا تحتمله، تريد أن تسكته بأية وسيلة.. جريت إلى الجدار، غالبت رغبة شاملة في تسلقه، في مد رأسك حتى لو كان الجلاد متربصاً بها، سمعت بوضوح مؤكد الوضوح "أين السجاد؟ والذهب يا ساقطة .. قتلتيه أخي عبد الرحمن .. لن يحميك شيء من البوليس .. اتسمعين ؟ البوليس!البوليس؟ كثيراً ما هددك الحنفي بالبوليس .." سوف يدخل البوليس الحي بسببك .. أنت رأس الهوس." "يا ابن الشيخ عبد الغفار .. صحيح النار تخلف الرماد.." حين أطلت رأسك من فوق الجدار، لم يكن هناك جلاد يتربص بها بل تلك (ستنا) في منتصف الحوش، تصيح وتولول، وتصيح .. والغريب أن بعض أهل الحي وقفوا غير بعيد في مدخل البيت... تحدث نفسك: "اخفض رأسك .. طالما أنت لا تنظر ألي شلبية فما جدوى النظر من فوق الجدار؟ أجلس تحته.. وتخيل إبراهيم سيد الدكان .. أو الحنفي .. أو الشيطان نفسه لا يهم .. ومن يدري فربما جاء دورك؟"
صوت النحيلة النحيل يأتيك بأعلى طبقاته "يا فاجرة قتلتيه .. أورثتيه هما وسقما حتى مات ..".
وأنت خلف الجدار .. من يدري .. فربما جاء دورك وربما...

ليست هناك تعليقات: