" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الثلاثاء، مايو 25، 2010

قصة مشروع الجزيرة

موقع المشروع:

يقع مشروع الجزيرة في تلك المنطقة التي أطلق عليها الجزيرة وهي المنطقة الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض والتي تبدأ من المقرن، حيث التقاء النيل الأزرق بالأبيض بالخرطوم، وتمتد جنوباً حتى خط السكة حديد الذي يخترق المسافة بينهما رابطاً بين مدينة سنار على النيل الأزرق ومدينة كوستي على النيل الأبيض. وهذه المنطقة عبارة عن سهل منبسط تبلغ مساحته حوالي خمسة ملايين فدان يمكن ري ثلاثة ملايين منها رياً مستديماً، وقد نجحت التجارب الزراعية التي أجرتها الشركة الزراعية في مطلع القرن العشرين في زراعة القطن بالجزيرة وحققت تلك التجارب إنتاجية عالية ودفعت تلك التجارب مع عوامل أخرى الحكومة البريطانية إلى ضمان منح قرض لحكومة السودان من أجل عمليات التمويل اللازمة للري والزراعة.
ومنذ البداية أحست الحكومة السودانية (الإدارة البريطانية) بالقلق الذي ظل يساور كبار المسؤولين من وضع الشركة وسيطرتها على المشروع ولذلك حرصوا على وضع أسس واضحة لعلاقات إنتاجية تنظم العائد المالي للمشروع وتحفظ لكل طرف من الأطراف حقوقه.

القطن: القطن في السودان عرف قبل الغزو التركي للبلاد فقد كان يزرع بمنطقة الدندر ويصدر منها للحبشة، ويزرع فقي مناطق متفرقة من السودان الأوسط للغزل (الدمور) للإنتاج والاستهلاك المحلي – إذ كان الدمور يستخدم كعملة في التبادل التجاري في الأسواق منذ العهد السناري. وبعد دخول الأتراك البلاد وتعرفهم على المنسوجات القطنية وصناعتها المحلية في منطقة شندي وبربر والدامر والتي تشتهر بصناعة ونساجة الدمور – وقد أبدى محمد علي باشا اهتماماً بالقطن وتوسيع زراعته فطلب من حاكم السودان آنذاك أن يرسل إلى القاهرة أنواعاً من البذور من أجل تجربتها وزراعتها في مصر وشهدت فترة الحكم التركي للسودان رغم الاضطرابات وعدم الاستقرار اهتماماً كبيراً في أمر زراعة القطن حيث جلبت من مصر أنواع من بذرة القطن من أجل تحسين نوعيته ورفع إنتاجيته من أجل تصديره إلى مصر.

وأجريت التجارب في دلتا القاش وطوكر ووجد اهتماماً عظيماً في تلك الحقبة وقد شكلت هذه الزراعة وتلك التجارب النظرة الأولى في زراعته والتوسع فيه مستقبلاً في فترة الحكم الثنائي بالسودان فيما بعد.

وفي فترة المهدية تلك الثورة التي قامت على أنقاض حكم أجنبي نتيجة ثورة شعبية فكانت دولة دينية مرتكزة على فكرة المهدي المنتظر وكان أبرز مجموعاتها القبائل الرعوية ذات التقاليد القتالية والجلابة الذين يشكلون طلائع وقادة تلك المجموعات حيث شكلوا القيادة الفعلية والإدارية للثورة المهدية وكانت الدولة المهدية ذات طابع عسكري، وقد فرض عليها فرضاً وبخاصة في سنواتها الأخيرة وأصبح جانب كبير من اقتصادها اقتصاد حرب وخلال فترة المهدية تعرض النشاط الزراعي لاضطراب كبير من جراء الحروب والمعارك والمواقع الحربية المتصلة أضف إلى ذلك الهجرات التي انتظمت معظم القبائل وخاصة في عهد الخليفة عبد الله خليفة الإمام المهدي حيث هاجرت قبائل رعوية نحو المدن وبخاصة البقعة (أمدرمان) وكان الإنتاج الزراعي في تلك الفترة موجهاً نحو سد حاجيات الناس من مأكل ومشرب ولذلك كان الإنتاج منصباً نحو الاستهلاك المحلي ولم يكن هناك اهتماماً جاداً بالمحصولات العالمية مثل الصمغ والقطن إلا في حدود ضيقة ولم تتوسع دولة المهدية في زراعة القطن بل اكتفت بالمساحات التي ورثتها من الحكم التركي في دلتا طوكر والقاش بشرق السودان وكان وقتها يروى طبيعياً والمساحات المزروعة بلغت بضعة مئات من الأفدنة وبعد محاصرة الثورة المهدية ومحاربتها وهزيمتها ودخول الجيوش البريطانية وبداية الحكم الثنائي بالبلاد وكان وقتها عدد السكان لا يتجاوز اثنين مليون نسمة في مطلع عام (1900م) وتدهورت تلك البنيات الأساسية: زراعة – تجارة – مواصلات – صحة – تعليم، بالإضافة إلى الفقر والأمراض والأوبئة التي تجتاح المواطنين. وقدر في ذلك الوقت الدخل القومي ب واحد وخمسين ألف جنية في العام وبلغ الصرف (185) ألف بعجز فاق المائة ألف وكانت الصورة قاتمة فبدأت الإدارة الجديدة تتلمس طريقها..


(2)

الهجرة إلى الجزيرة:-

منطقة الجزيرة كانت تحت سيطرة الدولة السنارية – مملكة الفونج الإسلامية (1505-1820م) وكانت تسكنها مجموعة من القبائل خليط من غير القبائل العربية – وكانت دولة الفونج دولة قوية اقتصادياً وسياسياً. فمن الناحية الاقتصادية كانت التجارة الخارجية والداخلية منتعشة، واعتنقت الأسرة الحاكمة الإسلام، مما أعطى دفعة قوية للنفوذ الإسلامي والعربي بالمنطقة ووقعت اتفاقية بين الفونج والعرب (العبدلاب) وتكون الحلف الفونجي العبدلابي، تلك الاتفاقية التي أبرمت في بداية القرن السابع عشر الميلادي، وأدى ذلك إلى نزوح بعض القبائل العربية واستقرارها بالمنطقة واستتب الأمن نسبياً مما أدى إلى انتعاش تلك المناطق وبظهور الحكم التركي المصري وسيطرته على البلاد إثر سقوط العاصمة سنار وتسليم آخر ملوك سنار إلى إسماعيل باشا ابن محمد علي باشا فكانت هذه نهاية الدولة الوطنية الإسلامية التي استطاعت السيطرة على البلاد طوال ثلاثة قرون.

ظهرت بعد ذلك منطقة الجزيرة كقلب نابض سياسياً واجتماعياً وأصبحت مركزاً هاماً للهجرة الداخلية الواسعة النطاق شملت قبائل ومجموعات من شمال السودان إلى سهول الجزيرة وتم انصهارهم وانسجامهم مع السكان المحليين وازدهرت الزراعة والتجارة وخاصة في مجال الزراعة حيث جاء أبناء الشمال بموروثهم الزراعي ومعداتهم وأدواتهم وتجاربهم الممتدة في المجال الزراعي. وفي عهد المهدية تواصلت الهجرات إلى منطقة الجزيرة وبخاصة من القبائل الرعوية وذلك بسبب سياسات التهجير التي اتبعها الخليفة عبد الله مع القبائل وبخاصة قبائل غرب السودان والتي وجدت نفسها مجبرة على الهجرة إما إلى أمدرمان أو إلى أرض الجزيرة حيث استقرت مجموعات من القبائل البدوية بسهول الجزيرة ووجدت المراعي والماء واستقرت مجموعات أخرى وأصبح بعضهم يعمل بالزراعة وتربية الحيوان وسرعان ما ازدهرت الأعمال التجارية ونشأت طائفة الجلابة التي امتهنت التجارة وكان لنشاطهم التجاري أثره على الحياة في المنطقة وازدهرت مدينة ودمدني كمركز تجاري هام ووصفت بأنها أهم مدينة على النيل الأزرق واحتلت مكان مدينة سنار وبلغ عدد سكانها حوالي خمسة عشر ألف نسمة وهم خليط من السكان المحليين والقبائل العربية والمجموعات الشمالية وعرفت أسواقهم الأسبوعية وهي أسواق المدن خليطاً من البضائع المحلية والأجنبية (الذرة والصمغ والمصنوعات التقليدية بجانب الأقمشة المستوردة والسكر والتبغ والعطور) وكان واضحاً أن حركة تحول قد حدثت في البلاد.

زراعة القطن:-
في بداية الحكم الثنائي (1900م) كتب يوست مشيراً إلى أن منطقة السودان منطقة صالحة لزراعة القطن، خاصة إذا تم تطوير وسائل النقل، وخطت الحكومة خطوات إيجابية حيث قامت في عام (1900م) باستيراد بذرة القطن (الأشموني) من مصر ونوع آخر وكانا من أجود الأنواع المصرية وعرضت على الخبراء بهدف تحديد إمكانية إنتاج القطن المصري بالسودان وجاءت التقارير إيجابية وأكدت نجاح التجربة.

وفي عام (1902م) أكدت التجارب إمكانية زراعة القطن في الجزيرة وسنار وفي نفس الوقت أسست مزرعة بشندي كمزرعة تجارب وأصبح الرأي السائد إمكانية زراعة القطن وبخاصة على مساحات واسعة. وكان المعتقد أن إنتاجية الفدان ربما تفوق إنتاجية الفدان بمصر لوجود الأراضي البكر والشاسعة وقلة الأمراض والحرارة المرتفعة التي ربما لا تساعد على انتشار أمراض القطن وبخاصة دودة القطن التي تشكل خطراً ماحقاً للمزارع والقطن المصري، واستمرت التجارب بصفة جادة وكانت هناك تجارب كبيرة في الكاملين بالجزيرة وتجارب في العديد من المناطق وذلك من أجل زراعة القطن مطرياً.

ورغم بروز العديد من الصعوبات والمشكلات وفي مقدمتها توفير مياه الري المستدام إلا أن موضوع زراعة القطن وجد اهتماماً كبيراً من قبل السلطات البريطانية في السودان وبريطانيا على حدٍ سواء فمنذ عام (1901م) يلاحظ أن تقرير الحاكم العام يشير ويركز على موضوع زراعة القطن بوصفه مجال حيوي وهام لتطوير السودان مستقبلاً ولكن كانت هناك عقبة تواجه هذا التوسع المرتقب في زراعة القطن بالجزيرة، أولاً: اعتراض مصر على التوسع خوفاً من استهلاك مياه النيل وتقليل عائده إلى مصر. ثانياً عملية التمويل والحصول على ر"أس المال المطلوب مقابل التكلفة المتوقعة للإنتاج.


(3)

التمويل:

كانت عملية التمويل من أكثر الموضوعات التي أقلقت حكومة السودان، ومن أين لها الحصول على الأموال اللازمة لتؤمن للمشروع تمويلاً يفي بمتطلبات التوسع المرتقب، ولتشييد البنيات الأساسية وخاصة في مجال الري والزراعة. وكانت السياسة الاقتصادية المتبعة عدم إشراك القطاع الخاص في أي مشروع كبير يزج بالحكومة والإدارة البريطانية في أي نزاعات محتملة مع المواطنين، ولكن وجدت الحكومة نفسها مضطرة تحت ضغوط عديدة ومنح شخصيان أراضي زراعية شمال الخرطوم الأول لشخص أمريكي يدعى لي هنت وكان ذلك في عام 1903م. بمنطقة الزيداب حيث بدأت شركة باسم شركة السودان للتجارب الزراعية. والثاني لبريطاني يدعى مستر قريف. وفي عام 1905م بلغت الأرض المزروعة قطناً بتلك المنطقة (الزيداب) سبعين فداناً، ويعزى ذلك لصعوبة الحصول على الأراضي لموقف المزارعين وأصحاب الأراضي (الأطيان) وتشككهم في نوايا الشركة وعدم الترحيب بها وتمسكهم بزراعاتهم ومحصولاتهم التقليدية وكانت هناك محاولات لتهجير الفلاح المصري للسودان، ولكن المحاولة فشلت كما فشلت جهود حكومة السودان في الحصول على قرض من الحكومة المصرية لتمويل البنيات الأساسية لزراعة القطن بالسودان، وكان هناك تخوف من إثارة الشعب المصري وخاصة في توجيه أمواله واستثمارها في مجال ينافس القطن المصري الذي يعتمد علية كثيراً الفلاحون والإقطاعيون المصريون. وكان البديل المتاح هو اللجوء إلى الحكومة البريطانية لتقديم التمويل اللازم خاصة إذا علمنا بأن ميزانية حكومة السودان في ذلك الوقت تعاني من عجز مالي كبير وإذا أرادت الحكومة تمويلاً ذاتياً فلابدّ من فرض ضرائب إضافية وهو أمر تخشاه الإدارة البريطانية وتخشى إثارة المواطنين وحساسيتهم في أمر كفرض الضرائب هذه.

في مجال الري

ري مشروع كبير مقترح مشروع الجزيرة، كان ومنذ البداية يشكل هاجساً للفنيين والممولين، وجاءت الفكرة من المستر جارستن في عام 1906م عندما اقترح بناء خزان على النيل الأزرق وخروج قناة منه للاستفادة من مياه الفيضان في كل عام. ومن أهمية وجود خط سكة حديد يربط بين الخرطوم وسنار، وقدرت تكلفة المشروع المبدئية بثلاث مليون جنيه إسترليني وبفائدة سنوية قدرها 8%.

وقد أيد المستر دبيوي مدير الري في عام 1908م إمكانية قيام المشروع والقناة من الناحية الفنية مع إمكانية زراعة ثلاثة مليون فدان في المدى البعيد ورأى أن الخزان والقناة هما أمل البلاد الوحيد في قيام المشروع المقترح وقد وضح جلياً أن حكومة السودان في ظل مواردها الذاتية المتاحة تحقق هذا الهدف وبالتالي توفير التمويل الداخلي.

وفي عام 1904م اجتاح منطقة لانكشير – مركز صناعة النسيج في بريطانيا – القلق بسبب نقص الإمدادات من القطن الأمريكي الذي كانت تعتمد عليه المصانع لبريطانية بشكل كبير، وذلك بسبب التطور الكبير والسريع والمستمر في صناعة النسيج بأمريكا وتقلص الفائض للتصدير للخارج. وعلى إثر ذلك تقدمت وزارة التجارة البريطانية باقتراح محدد يقضي بالتفكير الجدي بتأسيس مناطق جديدة لإنتاج وزراعة القطن، واهتم التقرير بصفة خاصة بأرض الجزيرة بالسودان بصفتها صالحة للزراعة والقطن أكثر من مناطق مصر السفلى (الدلتا) والمساحة قدرت بعشرة أضعاف المساحة المزروعة قطناً في مصر، وأخذ الموضوع هذا اهتماماً متزايداً بعد ذلك خاصة بعد الارتفاع في أسعار القطن وتدخل اتحاد منتجي القطن البريطانيين، وفي ذلك العام ضمن موضوع القطن في خطاب العرش (الملكة).

في الفترة (1904-1906م) اهتمت حكومة السودان بالتجارب وفرغت من عمل كبير وهام وهو تسجيل الأراضي بمنطقة الجزيرة لتحديد ملكية الأراضي والتي تعتبر عملاً أساسياً للتمهيد لقيام المشروع، خاصة وقد تعاقبت على تلك المنطقة عدة ممالك ومشيخات منذ عهد الفونج والتركية والمهدية وتداخل القبائل ونزوحها وهجرتها مما أدى إلى التنازع في الملكية وأولوية الاستحقاق. وفي عام 1909م تدنت إنتاجية القطن المصري – الذي زاد من حدة قلق الحكومة البريطانية وشركات ومصانع لانكشير – وأدى ذلك إلى تشكيل لجنة من قبل اتحاد منتجي القطن البريطاني، والتي درست الموضوع من كل جوانبه وخرجت اللجنة بتصور بالغ الخطورة بمستقبل صناعة النسيج في بريطانيا وإثر ذلك اهتم القطاع الخاص البريطاني اهتماماً كبيراً بتطوير اللجنة واقترحوا بناء الخزان على النيل الأزرق بالسودان لزراعة نصف مليون فدان بأرض الجزيرة، وقد جاء في تقرير الحاكم العام البريطاني لعام (1909م) قوله ليست لدينا في الوقت الحالي التجربة الكافية والتمويل الكافي لبناء الخزان المقترح.



(4)
حتى عام 1909م ظلت عملية التمويل لقيام الخزان وشق القناة وتخطيط المشروع تقف عقبة كأداء أمام حكومة السودان. وخلال تلك الفترة (1910م) زار نائب رئيس منتجي القطن البريطاني وإثر عودته عقد اجتماعاً في مانشستر برئاسة عمدة المدينة ضم ممثلي أصحاب المصانع وعمال النسيج وحثهم على الضغط على الحكومة البريطانية للاهتمام بزراعة القطن بالسودان، وبالإجماع قرر الاجتماع تبني المشروع ومخاطبة وملاحقة الحكومة بالأمر.

في عام (1911م) جاء وفد إلى السودان برئاسة رئيس اتحاد منتجي القطن ببريطانيا مع اثنين من أعضاء الاتحاد لمزيد من التقويم في السودان وجاء تقريرهم مؤكداً ومؤمناً إمكانية إنتاج مليون بالة من القطن على المدى البعيد، واطمأن على أن التجارب التي أجريت برهنت أنها كانت ممتازة إذا بلغت إنتاجية الفدان ثمانية قناطير وخمسة ونصف قنطار في المتوسط وفي ذلك العام نجح اتحاد منتجي القطن البريطاني بإقناع حكومة السودان على تحويل كل التجارب لإدارة الشركة ودخل الاتحاد كمساهم بشراء خمسين ألف سهم الذي أهل الاتحاد لعضوية مجلس لإدارة الشركة.

ولكن حكومة السودان قابلت الأمر بنوع من البرود والتردد في التعامل مع القطاع الخاص – خوفاً من المشاكل التي سيسببها مستقبلاً لها في تعامله مع المزارعين وملاك ا|لأراضي – وكان رأي الجنرال كتشنر (حاكم عام السودان) آنذاك ومنذ البداية أن المشروع لا يمكن أن يقوم إلا عن طريق تمويل من المصارف البريطانية بضمان من الحكومة البريطانية لحكومة السودان. وفي عام 1911م كتب للخارجية البريطانية بإمكانية تنفيذ المشروع بواسطة الشركة خاصة وكانت تلك رغبة بعض الدوائر في القطاع الخاص ولكن كانت لديه تحفظات وتخوفات وخاصة في دور توزيع مياه الري وآثار خطورة ترك الشركة ومنحها حق التصرف في مياه النيل واقترح أن تقوم حكومة السودان بمشاريع الري الكبرى أسوة بمصر.

ووجد الاقتراح القائل بمنح حكومة السودان قرضاً بضمان الحكومة البريطانية قبولاً في معظم الدوائر ومثل هذا الوضع سوف يبعد شبح إلقاء عبء على دافع الضرائب البريطاني والخزينة البريطانية، وفي ذلك أيضاً إبعاد عن الفكرة التي طرأت من الحكومة المصرية بتمويل المشروع لإخضاعه لسيطرتها، وفي الوقت ذاته فقد صرفت الخزينة المصرية أموالاً طائلة على السكة الحديد ودعم ميزانية حكومة السودان.

قام وينجت نائب حاكم السودان العام باتصالات خاصة مع الحكومة البريطانية، حيث عبر عن عميق أسفه لتردد الحكومة البريطانية في مساعدة السودان وأكد ضرورة القرض، واتفق مع رأي كتشنر على أهمية إبعاد مصر عن تمويل المشروع. وكانت الحكومة المصرية قد دفعت مبلغ أربعة ملايين جنية خلال الفترة (1889-1910م) للسكة حديد لدعم الميزانية وفي الوقت نفسه كان واضحاً أن مصر لن تساهم في مشروع ينافس القطن المصري ويبدد مياه النيل المبلغ الأولي المطلوب في حدود خمسة مليون جنيه ثلاثة للمشروع ومليون لخط السكة حديد ومليون ترد إلى البنك الأهلي حيث أخذت منه كسلفية.

وفي عام 1912م دافع اتحاد أصحاب المصانع البريطانيين دفاعاً حاراً عن المشروع المقترح يكفي بريطانيا من الأقطان لمدة تزيد عن الخمسين عاماً على الأقل وأوضحوا أن بالسودان تجارب كما أن السودان عرف زراعة القطن منذ عدة عقود وليس الأمر بداية من الصفر كما يتصور بعض الناس وطالبوا الحكومة البريطانية بمنحهم مبلغ مائتي ألف جنيه إسترليني لتصرف على التجارب والبحوث. كما طالبوا بتخصيص مبلغ مليون جنيه لمشروعات الري.

وتعرضت الحكومة البريطانية لضغوط شديدة وصرحت بأنه ليس في مقدورها توفير الأموال اللازمة للتمويل ولكنها على استعداد لضمان حكومة السودان لجمع قرض من المؤسسات المالية والتي كانت أساساً مهيأة لتقديم مثل هذا القرض وكان الاقتراح ضمان ثنائي يصدر من بريطانيا ومصر مرة أخرى رفضت حكومة السودان هذا الاقتراح بصورة قاطعة، ثم حدثت الكثير من المتغيرات أدت إلى نشوب أزمة بين كتشنر حاكم عام السودان والحكومة البريطانية.

وفي عام 1912م بلغت لانكشير القمة في تصنيع واستهلاك المادة الخام من القطن حيث بلغت اثنين ألف ومائة مليون رطل (21 مليون قنطار) وصدرت سبعة عشر ألف مليون ياردة نسيج وبلغت النسبة (80%) ثمانون بالمائة من الإنتاج للتصدير وهذه التطورات كانت بمثابة مؤشر بأن لا مجال للنقاش في الأمر بعد ذلك – وأوفد الاتحاد وفداً يمثل الرأسمالية البريطانية والعمل لمقابلة رئيس الوزراء البريطاني وطلب ضمان للقرض المطلوب والبالغ قدره ثلاثة مليون لحكومة السودان لتشرع فوراً في قيام مشروع الجزيرة لضمان زراعة القطن وتزويد المصانع البريطانية.


(5)
ويمكن القول بأن مشروع الجزيرة كان نتيجة لجهود متعددة تضافرت جميعها أهمها جهود حكومة السودان واتحاد منتجي القطن البريطاني وعمال صناعة النسيج ببريطانيا والتي بلغت أوج قمتها في عام 1913م وكانت السبب المباشر في جعل المشروع حقيقة واقعة وحصلت الحكومة على القرض المطلوب.

ففي عام 1911م بدئ بزراعة التجارب لمحصول القطن بتفتيش طيبة بالقسم الأوسط بالجزيرة في شكل مشروع استطلاعي يروي بالطلمبات. وفي عام 1913م بعد التأكد من صلاحية التربة ونجاح التجارب صدق نهائياً ببناء خزان سنار ولكن لتدهور قيمة النقد في أعقاب عام 1914م نشأت صعوبات مالية والشيء الوحيد الذي أنقذ المشروع من الفشل هو الملاحقة والضغوط من عدة جهات وبخاصة المؤسسة البريطانية لزراعة القطن. وبدأ بناء الخزان في عام 1914م ولكن بسبب قيام الحرب العالمية الأولى تأخر إتمام بنائه حتى عام 1925م وفي نفس الوقت أقيمت ثلاث مشاريع تروى بالطلمبات في أجزاء مختلفة من المنطقة الوسطى بالجزيرة وفي تلك المشاريع أعدت النظم لدراسة وتطبيق الخبرة اللازمة وإجراء التخطيط ونظم الإدارة الحديثة الذي أصبح أساساً للتنظيم الذي أتفق عليه نهائياً على نظم مجربة وعلى أيدي عمالة تحمل خبرة بالعمل وبجانب ذلك أنشأت مصلحة الأبحاث الزراعية في عام 1918م والتي ساهمت بقسط كبير في قيام ونجاح زراعة القطن.

وفي عام 1922م وهو عام ركود اقتصادي وافقت الحومة البريطانية على ضمان قرض آخر بقيمة ثلاثة مليون ونصف جنيه إسترليني رغم الظروف الصعبة.

وفي عام 1924م ومن واقع التجربة والتكلفة الحقيقية أتضح أن القرض الإضافي لا يكفي وتمت الموافقة مرة أخرى بقرض مساوي للأول وأصبح المبلغ الكلي ثلاثة عشر مليون جنية إسترليني. واشترطت الحكومة البريطانية أن تحصل حكومة السودان على ضمان من الشركة أن كل قطن الجزيرة يعرض في بريطانيا مع إمكانية تحديد سعر أعلى للقطن وذلك في محاولة لمنع الشركة وأي جهة أخرى للسيطرة على القطن طويل التيلة. ولكن الطلب رفض من قبل حكومة السودان ومن قبل وزارة التجارة البريطانية لأنهم رأوا في ذلك احتكار لا مبرر له وأنه يضر بالمزارع، كما أنه يقضي على فكرة التجارة الحرة التي تنادي بها بريطانيا وأوربا.

قيام المشروع:-

عام 1925م يعتبر عام الثورة الزراعية الكبرى لأن في هذا العام اكتمل قيام مشروع الجزيرة – على نسق أوربي في كل الأوجه الإدارية والتنظيمية ورأس مال أجنبي، وقيام خزان ضخم للري ورقعة زراعية مساحتها (ثلاثمائة ألف فدان) قسمت إلى حواشات كل حواشة عشرة فدان وحددت الملكية بحواشة واحدة واثنين كحد أقصى ولكن في الواقع بلغ عدد الحواشات للشخص الواحد في بعض الحالات حوالي ثمانية عشر حواشة. وكان من أوجه تنظيم المشروع إلى إدارة زراعية ومرابيع بالمربوع ألف وخمسمائة فدان وهو مقسم إلى تفاتيش وفق خطة منظمة ومحددة بمواقيت تفصيلية ومنضبطة لعمليات (الحرث والزراعة والحش واللقيط والحريق والنظافة والرش.. الخ) وكان القطن يعطى الأفضلية في الري وصارت وحدة الدورة الزراعية (نمرة) وتبلغ مساحتها تسع حواشات تروى جدول رئيسي (أبو عشرين) وجدول صغير داخلي (أبو ستة) وبجانب عشرة أفدنه للقطن كانت هناك فدانين ونصف للذرة ومثلها للوبيا والنوعان الأخيران (الذرة واللوبيا) يزرعان بطريقة متناوبة سنوياً وذلك بضمان قيام الدورة الزراعية والتي تعتمد على تبادل الأرض بين المحصولات المختلفة بالإضافة إلى ترك مساحات بدون زراعة (بور) لمدة عام أو عامين وذلك للمحافظة على مستوى خصوبة التربة والتخلص من بعض آفات وأمراض القطن والقطن عادة يروى مرة كل خمسة عشر يوماً ويستهلك الفدان الواحد ما يقارب من 450 م مكعب من الماء ويتعاطى القطن حوالي خمسة عشر ريه والذرة ثلاثة إلى أربعة ريات واللوبيا (4-8) ريات ويحتاج القطن إلى عناية فائقة حيث تباد كل الحشائش وتحارب الآفات الحشرية والتي تحتاج إلى معالجات كيميائية (الرش) يدوياً وبالطائرات وتتابع عمليات الحرث والزراعة في مواقيتها وتراقب مراقبة جيدة وأي تقصير في أي من تلك العمليات من الحرث إلى جني تعرض صاحب الحواشة إلى عقوبات تصل إلى مرحلة نزع الحواشة.
________________________________________
(6)

بعد اكتمال المشروع عام 1925م اعتبر صمام الأمان ضد التقلبات الاقتصادية وكل التعليقات عبرت الأمل والتفاؤل باستثناء جريدة التايمز اللندنية التي عبرت عن تشاؤم عميق اتجاه المشروع فمن رأيها أن هذا التنظيم الأوربي الحديث المكتمل لن يستمر بهذه الصورة والخيال يعجز عن تصور ما سوف يحدث في المستقبل خلال العشرين أو الخمسين سنة القادمة، وتساءلت الجريدة هل ستصبح الشركة متعهداً أو وكيلا للمزارع المالك، أم سيتحول المشروع برمته إلى مؤسسة تعاونية تعمل علي الاحتفاظ بهذا التنظيم المعقد ؟ وإزاء هذا كان من رأي الجريدة أن الوضع السليم هو تعليم السكان أساليب تؤدي إلى زيادة الإنتاج وليس تحويلهم إلى أدوات إنتاج في تنظيم أوربي معقد ونادت الجريدة بزيادة مساحة القطن وزراعته في الأراضي المطرية، ولكن ظروف قلة السكان والخبرة والتجربة وعدم توفر الروح التجاري بين المزارعين أدى ذلك إلى اللجوء إلى عمليات السلفيات لتحريك عملية الإنتاج وارتباط الإنتاج بالربح من اجل سداد المبالغ المستحقة.

وكانت حكومة السودان متهمة بصورة ملحوظة بالأرباح والعائد السريع وليس بالسياسة التي نادت بها صحيفة التايمز التي تهدف إلى التحرك البطيء من اجل رفعة وطموحات لمستوي معيشي أفضل خاصة بالنسبة للمزارعين التقليدين.

وكتبت جريدة الديلي ميل البريطانية في ردها علي التايمز تقول أن البعض يرون أن الشركة ستستفيد وربما لذلك إذا ساعدها الحظ والواقع يشير إلى أن المزارع سيستفيد أكثر من غيره والتنظيم المعقد أمر لا مفر منه، لان زراعة القطن تختلف زراعة المحصولات التي تعود عليها المزارع السوداني والتي تحتاج إلى عناية مكثفة تحت إشراف فني مؤهل ولهذه الأسباب كان لابد من تأسيس الشركة البريطانية وساندت الصحيفة قيام الشركة ونظمها المقترحة لإدارة المشروع.

في عام 1924م بلغت الرقعة المزروعة خمسة وثمانين ألف فدان قطناً ربع هذه المساحة كانت بمشروع الجزيرة وبلغ دخل القطن 617 ألف جنيه وفي العام التالي( 1925م) قفزت المساحة إلى مائتين وخمسين ألف فدان وتحت السيطرة الكاملة لمشروع الجزيرة. وصادف هذا ارتفاع أسعار القطن وبلغ العائد أكثر من اثنين مليون جنيه وأصبح القطن يمثل أكبر نسبة للصادرات حيث بلغت 26% وفي عام 27/1928م بلغت النسبة 71% في عام 1929بلغت 76%.

علاقات الإنتاج:

بعد الحصول علي القروض بضمان حكومة السودان، أصبح ترك المشروع للشركة وإدارته والتحكم فيه بصورة مستقلة أمر غير وارد، والحكومة بوصفها الممول للمشروع لابد لها من القيام بدور هام في الإدارة وبالتالي الحصول علي ربح من العائد، وقد ساور القلق كتشنر وونجت من ترك المشروع نهائيا لشركة الزراعية وقال ونجت سيصبح السودان بمرور الوقت روديسيا وستصبح الشركة مسيطرة وصاحب سلطة ربما يمكنها من الحصول عليCharter (امتياز) من الحكومة، كذلك الخوف من احتمال سلفيات الشركة للمزارعين حيث تبلغ المديونية رقماً هائلاً شبيه للوضع في مصر يؤدي في النهاية إلى إثارة الاضطرابات وعدم الاستقرار والتمرد بل الثورة وكان السؤال كيف يمكن للحكومة أن تعيد سيطرتها واخذ زمام المبادرة من الشركة ؟

استعانت الحكومة بخبيرين أحدهم قانوني والثاني اقتصادي (كري وكارتر) وطلبت منهما دراسة الموضوع والتقدم لها بمقترحات مجددة وكان رأيهما أن تسترد الحكومة طيبة من الشركة وعلق ونجت علي هذا الاقتراح بقوله " انه فيه شيء من العنصرية للخروج من المأزق "

وفي عام 1913م سيطرت الحكومة علي طيبة وآلت المسؤولية علي قسم الزراعة ودخلت الحكومة مفاوضات من الشركة للوصول إلى اتفاق، والحكومة لم يكن في إمكانها تجاهل الشركة، خاصة وان الشركة فرع من فروع اتحاد منتجي القطن في بريطانيا، وسيطرة الحكومة علي الوضع لم يكن القصد منه إقصاء الشركة نهائيا إنما الهدف منه وضع اللائق بها وتحسين موقفها ونتيجة للمفاوضات التي أجريت بين الجانبين توصل الطرفان إلى اتفاق في أغسطس 1913م بتوزيع العائد الإجمالي علي أساس نسب:35%للحكومة 25% للشركة40% للمزارع.

الـ 35% للحكومة الغرض منها مساعدة الحكومة لدفع فوائد علي القروض وصيانة أعمال الحفريات وقنوات الري ودفع إيجار الأرض للسكان والـ 25% للشركة كانت لمقابلة تسويق القطن ودفع الرواتب والباقي أرباح لها والـ 40% للمزارع يدفع منها تكلفة العمالة الموسمية وتكلفة قنوات الري الداخلية والقنال الخارجي – أي كل تكاليف الحفر للقنوات ودفع ثمن الحيوانات المستخدمة في الحراثة وما يبقى للمزارع ( الحصاد والزراعة ).

والشركة كان عليها إيجار الماكينات للزراعة والحراثة والحصاد وهذه التكلفة تجمع وتقسم بين المزارعين والمجلس التنفيذي والرأي السائد أنها مستمرة من واقع الحياة السودانية والأعراف السائدة في المجال الزراعي قبل المشروع. ويري جيتسكل في هذا الاتفاق انه قوبل بارتياح بالغ من الحكومة لأنه ينطوي علي حماية تامة للمزارع وانه يدخل الحكومة والمزارعين في شراكه حقيقة في السراء والضراء وينال كل فريق نصيبه من الأزمات.


(7)

مع علاقات الإنتاج:

على إثر نشر الاتفاق الجديد في توزيع العائد بالنسب الموضحة (35%) للحكومة و (25%) للشركة و (40%) للمزارع.. وقوبل هذا الاتفاق بالسخط وعدم الرضا من المزارعين والذين لم تتح لهم فرصة المشاركة أو الأداء برأيهم في هذا الأمر الحيوي الهام والذي يتعلق بمستقبلهم وحياتهم ومستقبل المشروع نفسه وخاطب مدير الشركة في يوليو 1913م المفتش في طيبة (عليك إخطار المزارعين بالوظيفة الجديدة وأن حصتهم ستكون (40%) ويجب ألا يحاطوا علماً بالنسب الخاصة بالحكومة أو الشركة تفادياً لحدوث ردود فعل ومشاكل. ولكن بمجرد أن عرف المزارعون بتلك النسب ترك الكثيرون منهم العمل بالمشروع ورفعوا مذكرة للحكومة مطالبين بالنظام القديم الذي يعتمد على (الإيجار) فكان أول إضراب واعتراض بالمشروع وأبدى بعضهم رغبته في التنازل لقاء تعويض مناسب، وأكدت التقارير الخاصة بمديرية النيل الأزرق الإجحاف الذي طال المزارعين من هذه القسمة المجحفة وغير العادلة وذكر مدير مديرية النيل الأزرق في تقريره أن المزارعين على وعي تام بمصالحهم والشعور بأنهم ظلموا وقال أحدهم ربما يزج بنا غداً إلى السجون – ورغم تعاطف مدير مديرية النيل الأزرق مع المزارعين المبنية على الحقائق الواضحة إلا أن الحكومة والشركة رفضوا أي مناقشة أو تغيير للاتفاق ووضح ومنذ البداية أن علاقة الإنتاج لم تكن في صالح المزارعين بأن كانت على النقيض تماماً. وكانت بداية لازمة حقيقية استمرت بين المزارعين والإدارة منذ ذلك الوقت المبكر وتعاقبت الإدارات وظلت تلك الأزمة قائمة وحتى يومنا هذا وكان الذين هجروا المشروع من المزارعين أكثر بكثير من الذين واصلوا العمل بالشروط الجديدة ولكن لم يحدث فراغ وذلك لوجود مجموعات وافدة لمنطقة الجزيرة جاءوا بعد قيام المشروع واستقروا حول قرى المشروع ولم يترددوا في قبول الوضع الجديد.

أول إضراب لمزارعي الجزيرة:

شهد اليوم التاسع من نوفمبر 1913م أول حركة للمزارعين نتيجة رفضهم لاتفاق الحكومة والشركة ونسب توزيع الأرباح وكان ذلك الاحتجاج بمحطة طيبة التجريبية عندما توقف المزارعين عن العمل وسيروا موكباً إلى مدينة ودمدني واعتصموا بمباني المديرية وتقدموا بعريضة طالبوا فيها بالعمل بنظام إيجار الماء الذي كان متبعاً من قبل – وقد علق مدير المديرية بقوله: " إن أولئك البسطاء يعرفون مصالحهم جيداً وكان ينبغي استشارتهم قبل الإقدام على العلاقات الجديدة للإنتاج وأضاف لابدّ من أخذهم بالحيلة واسترضاء زعمائهم وربطهم بالشركة فأصبح ذلك المنهج أساس السياسة التي سارت عليها الحكومة والشركة.

مساندة المزارعين:

لم يغفل ثوار 1924م أمر مشروع الجزيرة ومزارعوه ففي منشوراتهم التي تناولت مظالم المستعمر استنكروا نزع ملكية الأراضي من أصحابها وإعطائها للشركة البريطانية بإيجار بخس.

وعند ظهور الحركة الوطنية في الثلاثينات اهتم روادها بمشروع الجزيرة وانصب هجومهم على الشركة ولعبت جمعية ودمدني الأدبية التي تأسست بنادي الموظفين بعاصمة الجزيرة مدني خلال السنوات 30/1932م دوراً هاماً في توعية المزارعين وحثهم بالمطالبة بحقوقهم وكان على رأس تلك الجمعية وروادها الأوائل أحمد خر المحامي (فيما بعد) وإسماعيل العتباني وحماد توفيق ومدثر البوشي وإبراهيم أنيس وحسن نجيلة وعبد الله عبد الرحمن نقد الله ومحي الدين مهدي ومحمد أحمد سليمان وحسن محمد يسن ومصطفى الصاوي والطاهر النيل وعلي نور وأحمد مختار ومحمد عامر بشير (فوراوي) وطه صالح وغيرهم.

وكانت الجمعية تقدم المحاضرات وتحث المزارعين وتطالبهم بالاعتماد على أنفسهم وأسرهم في مباشرة أعمال الزراعة وعدم الاعتماد على الوافدين وطالبت الحركة الوطنية في ذلك الوقت بإحلال السودانيين في وظائف البريطانيين في إدارة المشروع وإخراج الشركة نهائياً من المشروع.


(8)

حساب الاحتياطي:

ابتدعت الشركة نظاماً جديداً في عام 1935م عندما تم الاتفاق بين الحكومة والشركة لفتح حساب سمي حساب الاحتياطي للمزارعين وبدأت الاستقطاعات من المزارعين ومن دخلهم المحدود لحل مشكلة الدين وازداد الموقف سوءاً بسبب هذه الاستقطاعات الجديدة وأسوا من هذا كان الاتفاق قد تم سراً بين الحكومة والشركة وغياب المزارعين أصحاب الوجعة الحقيقية واستمر الاتفاق سراً بين الحكومة والشركة وفي طي الكتمان بعيداً عن أعين المزارعين حتى عام 1946م ولأول مرة وعن طريق أحد كبار موظفي الشركة من السودانيين وهو الأستاذ مكي عباس عرف المزارعون في قرية الطلحة أن هناك حساب احتياطي وبه مبلغ يزيد عن المليون وثلاثمائة ألف جنيه فتحرك المزارعون بالطلحة وأرسلوا وفداً ومندوبين للاتصال بالمزارعين بمدن وقرى المشروع وإبلاغهم بالنبأ استعداداً للتحرك الجماعي للمطالبة بحقوقهم المغتصبة.
وعلى صعيد آخر وبعد قيام مؤتمر الخريجين الذي نبعت فكرته من جمعية ودمدني الأدبية والتي كان مقرها بنادي الموظفين بمدينة ودمدني عاصمة الجزيرة. وقام قادة المؤتمر: إسماعيل الأزهري وأحمد خير وخضر حمد بالطواف على قرى الجزيرة لتعبئة المزارعين للوقوف معهم حيث طالب أيضاً الخريجون في مذكراتهم الشهيرة في عام 1942م بإنهاء امتياز الشركة.

وفي فترة وجيزة ودون قيادة منظمة أصبحت حركة المزارعين قوة ضاغطة – وفي مايو 1946م عقد ما يشبه الاجتماع العام بودمدني إذ حضره مناديب من معظم تفاتيش المشروع وأقسموا على الإضراب إن لم تدفع لهم الأموال المناسبة من أموال الاحتياطي وبعد الاجتماع خرجوا في مظاهرة تصدى لها البوليس فسقط بعض الجرحى واعتقل بعضهم، وقد أثار هذا الموقف الرأي العام السوداني وشده لمتابعة الموقف، وأدى ذلك إلى تكاتف وتعاضد المزارعين وقررت الحركة إرسال وفد من أربعين مندوباً يمثلون كل التفاتيش لشرح وجهة نظرها ومتابعة الحلول مع المسؤولين بالخرطوم.

حاولت الحكومة إثناء المزارعين ووقف الإضراب وذلك عن طريق تدخل الزعماء الدينيين الطائفيين السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني والشريف الهندي والإدريسي في محاولة للتأثير عليهم والعودة إلى الحواشات ولكن باءت كل المحاولات بالفشل الذريع واستمر الإضراب.

واتجهت أنظار المزارعين نحو المثقفين وكانت الحركة الوطنية على أشدها وبادر زعماء حزب الأشقاء وصعدوها واتصلوا بقادتها وعلى رأسهم الشيخ أحمد دفع الله من قرية الصالحة وعمل الأشقاء على تكوين لجنة من المزارعين طافت قرى الجزيرة لتوعية المزارعين للتمسك بحقوقهم وانتزاعها وتوحيد كلمتهم وموقفهم. وواصل الأشقاء بقيادة الزعيم إسماعيل الأزهري بإطلاع الرأي العام على معاناة مزارع مشروع الجزيرة واستثمر الأشقاء ذلك الإضراب في مقاومة الاستعمار وضد المجلس الاستشاري لشمال السودان الذي قاطعة حزب الأشقاء – ورغم كل الوساطات والحلول التي عرضت استمر الإضراب طوال يونيو – يوليو 1946م وتوقف حوالي 75% من المزارعين عن العمل رغم الضغوط التي باشرتها إدارة المشروع نحوهم وخلفها الإدارة البريطانية من أجل عودتهم إلى مزارعهم وتبني المؤتمر القضية وتقدم بمذكرة مدروسة. وملخص رأي المؤتمر أن المشكلة الأساسية هي المديونية ولا يمكن الحل إلا بعد حصول المزارعين على حوالي أحد عشر ونصف جنيه أي ما يعادل دفع حوالي أربعمائة ألف جنيه من مال الاحتياطي للمزارعين وعارضت الشركة هذه الفكرة.

وكان جتشكل ممثل الشركة – ورغم أفكاره المتحررة نسبياً عرض الفكرة ودافع عن عدم استشارة المزارعين عند تأسيس مال الاحتياطي وذلك بقوله أنهم لو استشيروا لرفضوا وشبه المزارع بطفل في الثامنة من عمره إذا أعطي مبلغاً من المال بمناسبة عيد ميلاده وطلب منه إيداع جزء من المبلغ في صندوق ادخار لرفض لأنه يفضل أن يشتري بكل المبلغ شكولاته.

وكان رأي جتشكل أن الحل ليس في زيادة المال المتداول وذلك لأن تأثيره سيكون سيئاً ويزيد من التضخم والحل في رأيه إقناع المزارعين بضرورة العمل الجاد والاستعانة بذويهم والتعاون مع العمال للحد من المصروفات المتزايدة وبالتالي زيادة الدخل ومن رأيه أيضاً أن ربح المزارع كان كافياً لاحتياجاته.


(9)

رأي الحكومة:

على إثر الأزمة التي نشبت بين المزارعين وإدارة المشروع خاصة فيما يتعلق بأموال الاحتياطي والتكتم والسرية التي تعاملت بها إدارة المشروع لهذا الموضوع كان للحكومة رأي ممثلاً في شخص السكرتير المالي فكان من رأيه أن مزارع الجزيرة له قضية ولابدّ من مساعدته مالياً إضافة إلى أن المزارعين محقين في نقدهم للحكومة بالنسبة للسرية والتكتم على حساب الاحتياطي. ومن رأيه أيضاً أن الأحوال تغيرت والوعي قد زاد ولابدّ من سياسات جديدة تحل محل النظرة القديمة ولابدّ من منح المزارع دوراً أكبر في الإدارة واقترح تكوين مجلس أو هيئة للمزارعين تكون إدارة استشارية ولكن بالنسبة للدفع من الحساب وقف بجانب إدارة الشركة مدعياً أن هذا سلطة الشركة واقترح أن تدفع خمسة جنيهات لكل مزارع من حساب 1945م للحواشة مبلغ مشابه يدفع في عام 1946م.

كان من رأي الحكومة والشركة أن الحساب مقيد كما هو لأنه يخدم أغراضهما الاثنين ولكنه يضعف المزارع ويهضم حقه، ولا تود الحكومة ولا الشركة إضعاف حساب الاحتياطي أو الأخذ منه وتخشى الحكومة من منح المزارعين أموالاً خوفاً من تدفق السيولة والتضخم والصرف الاستهلاكي على الكميات.

وكان المثقفون الذين ساندوا المزارعين في انتزاع حقوقهم من الشركة والحكومة يرون أن التضخم ليس مسؤولية المزارعين وأن المال مال المزارعين ومن حقهم الحصول عليه أو على جزء منه وكانت الحكومة تحاول تفادي أي مواجهة مع المزارعين ولذلك كونت لجنة خاصة للنظر في الأمر، وأوصت تلك اللجنة بدفع مبلغ مائتي ألف جنيه من مال الاحتياطي ولكن الشركة رفضت التوجيه والحكومة اقترحت مبلغ (132 ألف جنيه) وعلى أساس القنطار وليس الحواشة وأصرت الحكومة على موقفها.

إنهاء الإضراب:

لاعتبارات قومية من جهة ومسائل وحسابات تنظيمية وواقعية من جهة أخرى مثل صعوبة التحكم في إضراب لفترة تزيد عن الشهرين لمجموعة (2500) مزارع يمتدون على مساحة أرض الجزيرة الشاسعة وصعوبة وبطء الاتصالات بين القيادة والقاعدة. وتدخل الحكومة وإدارة المشروع والضغوط التي مارسها الزعماء الدينيون على قيادات المزارعين وغير ذلك من الاعتبارات وإزاء هذه الحسابات قرر حزب الأشقاء بقيادة الزعيم إسماعيل الأزهري والذي كان يدير المعركة مسانداً للجنة المزارعين وقيادتهم رفع الإضراب ودعوة المزارعين للعودة إلى حواشاتهم.

تامين المشروع:

في أواخر الثلاثينيات من القرن المنصرم بدأ التفكير حول مستقبل مشروع الجزيرة وكان رأي المسؤولين في الحكومة تجديد الاتفاقية مع الشركة لإدارة المشروع وأكد السكرتير المالي لحكومة السودان أهمية الوضع على أساس:-

أن المسؤولية المالية بالمشروع كبيرة خاصة وهي مثقلة بالديون (ديون المزارعين) وديون الحكومة المصرية التي تبلغ خمسة مليون جنية إضافة |إلى المسؤولية المالية تجاه الشركة التي تتكلف أيضاً أعباءً مالية كبيرة وكان رأيه أن يستمر الوضع كما هو، وفي حالة تجديد العقد أو الاتفاق كان من رأيه أيضاً أنه لابدّ للشركة من تأسيس خدمات اجتماعية بالمشروع. وعلى هذا الأساس توصل |إلى اتفاق سمي "Schedule x " (جدولX ) وذلك في عام 1938م.

وفي عام 1942م تقدم الخريجون بمذكرتهم الشهيرة وطالبوا فيها ضمن مطالبهم بتصفية الشركة وإنصاف المزارعين وسودنة الوظائف القيادية والإدارية بالشركة. وفي عام 1944م قررت الحكومة عدم تجديد الاتفاق مع الشركة على أساس أن الأوضاع السياسية قد تغيرت كلياً وأصبح تحويل السلطات للسودانيين بصورة تدريجية وفي نفس الوقت كانت الحكومة في وضع مالي صعب، وأي محاولة لتجديد العقد يعتبر بمثابة مغامرة مالية وسياسية غير مضمونة العواقب.

وأخيراً تم التوصل إلى صيغة جديدة إدارة المشروع تتمثل في مجلس إدارة يمثل كل المصالح الحكومية العاملة بالمنطقة مثل الصحة والتعليم والزراعة ومهمة المجلس تحديد السياسة العامة والتنسيق بين الوحدات الحكومية المختلفة وعدد المسؤولين حدد بسبعة أعضاء (الديوانيين) بالإضافة إلى خمسة أعضاء من السودانيين اثنين من المثقفين وثلاثة يمثلون مزارعي الجزيرة.

كانت سياسة الحكومة من خلال مداولات المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944م) ثم الجمعية التشريعية (1948م) وتوجيهاتها للشركة تتمثل في إتاحة الفرصة للسودانيين المتعلمين العاملين بالمشروع بترفيعهم لاحتلال مناصب إدارية هامة وتدريبهم على تولي المسؤوليات وكانت هناك مجموعة من هؤلاء الموظفين السودانيين الذين التحقوا بخدمة المشروع خاصة أولئك الذين استوعبوا من قوة دفاع السودان.

(10)

أهم مظاهر التأميم:

كان من أبرز فوائد التأميم بالنسبة للمزارعين إلغاء نصيب الشركة والذي يبلغ (20%) من الأرباح، كما تم إلغاء الفائدة على سلفيات المزارعين – التي كانت ترهق كاهل المزارع – أيضاً البداية في الخدمات الاجتماعية التي خصص لها 2% من دخل المشروع كحد أدنى وأصبحت الحكومة هي المالك الحقيقي للمشروع ولكنها كانت تملك حق الفيتو في الكثير من القضايا فمن ذلك إصرارها على عدم منح المجلس سلطة تحديد السلفيات للمزارعين كما أن التأميم أنهى وجود الشركة.

ونجم عن التأميم بعض السلبيات التي برزت على السطح كان أبرزها: أن الإدارة الجديدة بحكم استعدادها المظهري مالياً وإدارياً جعل من المجلس ومعاونيه طبقة قائمة بذاتها – وقاد ذلك إلى شبه فساد – وصرف النظر عن قضايا هامة وكبيرة مثل قضية تطوير المشروع وتوسعته وتحديثه ومكننته وهي القضايا التي كان يتوقع أن يوليها المجلس جل اهتمامه. كما أن تعيين المحافظ من قبل الحكومة جعل الوظيفة القيادية سياسية بالدرجة الأولى وبالتالي خضعت لاضطرابات وتقلبات السياسة ولا غرابة أن تلاحظ أن المحافظ ربما يحصر كل تفكيره في كيفية البقاء في منصبه وإرضاء الحكومة وتطبيق سياساتها حتى وإن كانت غير مصلحة المزارع.

كما انعكس سلباً عدم التأهيل والإدارة لبعض الكوادر السودانية في بعض المناصب القيادية والذين حاول بعضهم أن يغطي جهله بالغطرسة والتعالي وساءت المعاملات في بعض الأحيان مع المزارعين ورأى المزارعون في بعض هؤلاء ما لم يروه في الإداري البريطاني. حيث أصبحت تعقد المقارنات والتي جاءت في كثير من الحالات في مصلحة الموظف البريطاني !! ولهذه الأسباب ولغيرها ألمت بالمشروع كشراكه نوع من المبالغة – فقبل عام 1950م يمكن القول بأن هناك شراكه حقيقية ولكن بعد ذلك لم يكن هناك شراكه بين الحكومة والمزارعين حيث أصبح المشروع ملك للدولة (الحكومة).

ومن الخطأ القول أنه خلال تلك الفترة التي أعقبت قيام المشروع تحول سكان المنطقة (الجزيرة) من مجموعات فقيرة متخلفة إلى مجتمع زراعي يعتمد على النمط التقليدي – تحول هذا المجتمع إلى مجتمع رفاهية يعيشون حياة اجتماعية واقتصادية متوازنة. فمثل هذا الحديث يمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة لكبار الملاك وهم قلة ولكنه بكل تأكيد لا يمثل الأغلبية من الصغار الملاك الذين يعيشون تقلبات مستمرة في أحوالهم المعيشية.

إدارة مشروع الجزيرة:

قدمت لجنة كونتها الجمعية التشريعية في عام 1949م تقريراً تناول مستقبل إدارة مشروع الجزيرة، وقد رأت اللجنة أهمية تأهيل وتدريب السودانيين العاملين بإدارة المشروع لتولي الوظائف القيادية في مجالات الإدارة والإشراف الزراعي والخدمات الاجتماعية ولم تتحمس كثيراً إدارة المشروع لهذه التوجيهات ورأت أن تطبيقها ربما يؤثر في الوضع وفي موقف ضباط الغيط البريطانيين ويجعلهم قلقين على مستقبلهم وعملهم في المشروع، كما أن اللجنة قد وجهت أيضاً باختيار مجموعة من السودانيين العاملين وإلحاقهم في وظائف مساعدي مديرين ليكتسبوا الخبرة اللازمة من المديرين البريطانيين وليحلوا محلهم في المستقبل حتى لا يحدث أي فراغ أو خلل.

وكان رأي جتشكل – المدير البريطاني للمشروع – أن الخبرة البريطانية في إدارة المشروع وتصريف شؤونه لم تأت بين عشية وضحاها وأن تلك الخبرة جاءت نتيجة عمل دءوب ومتصل شمل الحقل والمكتب والقرية والمزارع نفسه – واستمر يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام وقد رأى استبعاد هذا الاقتراح لعدم واقعيته !! ويرى أنه ليس أمام هؤلاء المساعدين المرشحين إلا الصعود من بدايته خطوة بخطوة ولا مكان للقفز وتخطي الحواجز لبلوغ الغايات !!

كان الاهتمام دائماً منصباً على الخبرة في تعيينات الوظائف بمشروع الجزيرة وخاصة وظائف مفتشي الغيط فكانت الخبرة وحسن التصرف والسيرة الحميدة تأتي قبل المؤهلات الأكاديمية والعلمية – وعندما أتيحت الفرصة للسودانيين لوظائف مفتشي الغيط تقدمت أعداد منهم فكانوا من المعلمين والجمارك والسكة حديد والحكومات المحلية والصحة وكان يبلغ عدد البريطانيين الذين يعملون مفتشي غيط حوالي المائة – ونسبة لاستقالة مجموعات من هؤلاء وجد السودانيون فرصتهم في التعيين كما وجد السودانيون أيضاً فرصتهم في الوظائف الإشرافية والإدارية العليا نتيجة لترك البريطانيين لوظائفهم والعودة إلى بريطانيا بعد التأميم وإنهاء عقد الشركة في عام 1950م، ومن ثم جاءت السودنة رغم أن المشروع بدأ في السودنة قبل لجنة السودنة المركزية وكان جتشكل مدير المشروع قد ترك الخدمة في عام 1951م وما حلّ عام 1955م حتى أبدت قلة من البريطانيين مغادرة مواقعهم بالمشروع بما فيهم البريطانيون العاملون بمحطة الأبحاث الزراعية بمدني.
________________________________________
(11)

الشركة الزراعية:

الشركة الزراعية هي الشريك الثالث في مشروع إذا أن الشريك الأول هي الحكومة والشريك الثاني المزارعين ولكل منهما 40% من الأرباح وتتكون الشركة الزراعية من الشركة الزراعية السودانية وشركة وكونت الأخيرة في عام 1922م بغرض استثمار وادي كسلا ودلتا طوكر والقاش ونصيبي الشركة من صافي الأرباح هو 20%.

والتزامات الشركة كانت تشمل تنظيف وتسطيح الأراضي المزمع ريها وإدارة المشروع واستخدام موظفي الغيط والكنبة وإعداد المنازل والمكاتب والمخازن والمباني الأخرى وإعطاء سلفيات المزارعين لتمكنهم من استئجار العمال وتمويل الترحيلات وحلج القطن وبيعه.

صافي الأرباح: بعد بيع المحصول ( القطن ) + البذرة + الشعرة، تخصم من هذا الحساب كل المبالغ المنصرفة علي المحصول منذ أن يسلمه المزارع إلي محطة الجمع حتى بيعه النهائي وتشمل هذه المصروفات قيمة الجوالات والترحيل والحلج والتأمين والبيع والتي يتحملها الشركاء وفي النهاية يخصم كل شريك منصرفاته الخاصة ليصل إلي ربحه النهائي. واقتسام الأرباح والالتزام الجماعي هذا امتد ليشمل الحساب الجماعي للمزارعين الذين تخصم منه تكاليف الحرث بسعر محدد ومعلوم للفدان بصرف النظر عن عدد عمليات الحرث لان زيادة التكاليف لا تقع علي عاتق المزارع وحده منفرداً ولكن يتحملها كل المزارعين في المشروع وفي نفس الوقت فان القطن فان القطن الذي تنتجه كل حواشة لا يمزج مع ما ينتجه المزارعون الآخرون ولكنه يضاف للمزارع صنفا وكمية في حسابه الشخصي وفي هذا شحذ للنشاط والكفاءة.

وانتهي امتياز الشركة الزراعية في 30/6/1950م ولقد جاء في صلب الاتفاقية الأساسية ما يلي: -

سيكون للحكومة الحق بعد إعطاء إنذار لا يقل عن سنة كتابياً في30 يوليو 1939م أو 30 يونيو سنة 1944م حسبما بترائي لها أن تنتهي الاتفاقية المذكورة وان تتسلم من الشركة إدارة الأراضي وكل موجودات الشركة بخلاف الموجودات التي ليست لها صلة بالمشروع المذكور بما في ذلك سكك حديد الجزيرة.

علي أن تدفع الحكومة للشركة الزراعية في ذلك التاريخ قيمة الموجودات حسب التقديرات حينئذ. كما كانت هناك اتفاقيات إضافية وملاحق عالجت بعض المشاكل: مثل اتفاقية ( تكاليف رأس المال ) واتفاقية أخري خاصة بمال الاحتياطي.

إدارة الشركة للمشروع:

كان الهيكل الإداري للمشروع يتكون من: مجلس الإدارة الذي مقره بلندن وينتخب أعضاء المجلس بواسطة المساهمين في أوائل كل عام بعد قفل الحسابات وقبل الأعضاء من المساهمين الكبار واللوردات وأصحاب الشركات الذين لهم تأثير بالغ على الحكومات البريطانية المتعاقبة والمهمة الأساسية لذلك المجلس هو رعاية مصالح المساهمين في كل النواحي. وكان يختار عضو ليكون مجلس الإدارة المنتدب ويطلق عليه لقب (المحافظ) وهو الممثل التنفيذي لإدارة الشركة الموكل إليه تنظيم الإدارة ومراقبة الأعمال والأداء ويعكس للمجلس في اجتماعه السنوي كل التطورات التي حدثت في فترة عمله مع تقديم الحسابات المنظمة للصرف والنتائج بالنسبة لذلك المؤدية للربح أو الخسارة ومن واجبات المحافظ القيام بالتوظيف للأعمال الإدارية والحسابية وغيرها.

حسب احتياجات العمل من وقت لأخر وكان المحافظ يقوم بالتفاوض مع حكومة السودان في الشؤون المتعلقة بالمشروع من امتدادات ومسؤول عن تسويق القطن المزارعين. ورئيس المجلس مسؤول لدي مجلس الإدارة من الناحية القانونية علي مجموعة من الواجبات الإدارية والمالية والتشريعية.

بين المحافظ والمدير العام:

المحافظ هو العضو المنتدب أما المدير العام فكانت مهمته إدارة المشروع بكفاءة واقتصاد مستعينا بمعاونيه وهو مسؤول عن الإدارة المحلية والتنفيذية للمشروع وكانت ابرز سمات الإدارة الاهتمام بالتكاليف وحصرها في أضيق نطاق وكان الشعار المرفوع هو" أقصى ما يمكن من الإنتاج بأقل تكلفة ما يمكن من التكاليف" ولم يكن لمحافظ المشروع أو لمجلس إدارته أي تدخل مباشر في شؤون الإدارة فقد كانوا يملكون ولا يحكمون فالشخص المسؤول هو المدير وان مفتشي الغيط هم الإداريون الذين ينفذون كل التعليمات الإدارية والإرشادات الزراعية.

(12)

السودانيون بالشركة:

كانت الشركة الزراعية تستخدم السودانيين الذين يتخرجون في المدارس الوسطى في مخازن التفاتيش أو كتبة أو وزانين للقطن والبذرة والمحالج. وبدأت الخطوة بإيعاز من الحكومة باستخدام السودانيين كمساعدين للمحاسبين الأجانب حتى يتم تدريبهم لسودنة الوظائف فيما بعد. وجاءت الدفعة الأولى من السودانيين من أماكن مختلفة كما يذكر السيد الكارب في مذكراته عن مشروع الجزيرة . وكانت الأحوال السائدة لا تطاق، وكثيرون تركوا العمل وهربوا. وهناك بعض أسماء الذين صبروا وصابروا وانتصروا وأطلق عليهم لقب الأبطال فمن هؤلاء:-

ميرغني دفع الله – ميرغني أبو عيسى – محمد عباس رحمة الله – تاج الدين علي حسين – أحمد عيدروس – عمر علي طه – سليمان فضل الباري – دفع الله عباس – حسن بابكر وغيرهم. وجاءت الدفعة الأولى من الثانويين وكان عميدهم الأستاذ محمد عثمان ميرغني ولعلها مدرسة التجارة الثانوية فكان من الرعيل الأول: محمد عمر عباس – مرتضى حمزة أحمد – يوسف عبد الله الكارب – محمد أحمد حسين وغيرهم. ووجد هؤلاء أسوأ معاملة في العيش والتعامل مع الباشكتبة والمفتشين على السواء. وصبر بعضهم وصابروا واستطاعوا أن يتدرجوا إلى الدرجات العليا وسودنوا فيما بعد وظائف الأجانب من الشوام والبريطانيين.

أما وظائف المفتشين من السودانيين فكانت الدفعة الأولى تتكون من خمسة وهم السادة: النور محمد نور الهدى – الزين بابكر الشفيع – حسني أحمد – عمران عيسى – يس حاج الخضر، ثم جاء بعدهم السادة: صالح محمد صالح – عبد الرحيم محمود – كمال ميرغني حمزة – عمر الجيلي – عبد المجيد عبد الرحيم – أحمد عبد الفتاح جبريل. والذين جاءوا من مصلحة المعارف كان منهم الأساتذة: عوض الكريم سنادة – يوسف محمد عبد الله – محمد أنيس عبد المجيد – محمود محمد علي – أحمد إبراهيم خلوتي – محجوب علي عمر وغيرهم.

وجاءت بعد ذلك الفرقة الثالثة وكانوا يعملون كمحاسبين في مكاتب الغيط منذ سنوات ولكن المفتشين أوصوا بعدم تعيينهم بحجة أنهم لن يجدوا الاحترام والاعتبار من المزارعين.

ولكن إثر مذكرة كتبها السيد الكارب ورفعها لمدير المشروع وكان وقتها السيد مكي عباس، الذي أصدر أمراً بأن يكون الأمر مفتوحاً للجميع وتم بالفعل اختيار مجموعة من هؤلاء. ويقول الكارب:" وكان الذين تم اختيارهم من أميز المفتشين بالنسبة لممارستهم للعمل بالمشروع وإلمامهم بالحسابات ومعرفتهم بالمزارعين وكانت هذه ميزة وليس نقمة كما توقع البريطانيون".

وقابل المفتشون الأوائل محنة لا قبل لهم بها حيث لم تكن هنالك عربات للمرور بها وكان المرور يتم بركوب الخيل وكان ركوب الخيل من ضمن شروط الخدمة وعلى المفتش أن يتقن هذا النوع من الفن والرياضة.. وقابل المفتشون السودانيون الأوائل معاكسات ومضايقات وصعوبات لا حصر لها وبخاصة من المفتشين والباشمفتشين البريطانيين. وكانوا يودون أن يبرهنوا أن المفتش السوداني يميل إلى الكسل والراحة ولا يستطيع أن يجاري المفتش البريطاني في النشاط وأداء العمل وبعضهم لم ينج من مكايدة ومؤامرات البريطانيين وتأليب المزارعين عليهم. ولكن مع كل ذلك برهن أولئك الرواد على عزيمة وقوة تحمل وإرادة مع كفاءة ومقدرة إدارية وخلق علاقات طيبة مع المزارعين أدت إلى نجاحات وانعكست في إنتاجية عالية ولكن مع هذا فهناك قلة أو أفراد منهم أصابهم الغرور واعتقدوا بأنهم ورثة المفتشين البريطانيين ويجب أن يسيروا على دربهم في المعاملات ولكن كانت تصرفات فردية معزولة.

وكان المفتش السوداني تحت الطلب في كل وقت بالنسبة للأحداث التي تحدث في منطقته فإذا تعسرت امرأة في الولادة فإن المفتش يجب أن يعرف ويساعد بالتلفون وبالعربة وفي كل الأوقات صباح مساء والظروف خريف أو شتاء بالطبع بجانب عملهم الذي يبدأ في الصباح الباكر قبل طلوع الشمس وإلى ما بعد المغيب في الغيط يومياً وفي كل الأحوال الممطرة والموحلة على حدٍ سواء بجانب معاناتهم وأسرهم وأطفالهم في حياتهم الاجتماعية الموحشة. واعتماداتهم على أيام الترفيه التي لا تتعدى يومين في كل شهر.

(13)

السـودنـة:

بعد عام 1955م أصبح مشروع الجزيرة خالياً من البريطانيين الذين غادروا الوظائف الإدارية والإشرافية بالإدارة أو الغيط. وبعد استقالة المستر جيتسكل وتركه العمل بالمشروع، ففي موسم 54/1955م صار السيد مكي عباس – مديراً تنفيذياً للمشروع وكان السيد مكي عباس قبل انضمامه للعمل بالمشروع يعمل معلماً حيث عمل بمصلحة المعارف وكان مدرسا بمعهد التربية ببخت الرضا مع الرواد الأوائل المستر قريفث والأستاذ عبد الرحمن علي طه. وقد اظهر الأستاذ المعلم مكي عباس مقدرة إدارية فائقة كما كان يتمتع بحس وطني متميز وكان أول من كشف للمزارعين مال الاحتياطي الذي كانت تحيطه الحكومة والشركة بالسرية التامة، ذلك المال الذي فجر ثورة المزارعين وقاد إلى أول إضراب للمزارعين أدي في النهاية إلى تدخل المثقفين ومساندة المزارعين ومن ثم قادت الأمور لتصل إلى تأميم المشروع وإقصاء الشركة.

ومع ذلك جاءت النتيجة مبشرة بمحصول وافر وضبط في التعامل والتنظيم الإدارة وتعاون تام وانسجام بين الإدارة السودانية (مفتشي الغيط) والمزارعين واستطاعوا أن يتخطوا كل العقبات ومعالجة السلبيات والقصور بحنكة وحكمة بالغتين وهذا ما يؤكد نوعية المختارين لشغل وظائف مفتشي الغيط من السودانيين والذين كانوا يتمتعون بخبرات إدارية وصفات أخلاقية حميدة وقوة في الشخصية جعلتهم قريبين من المزارعين دون تفريط أو مجاملة وإذا عدنا إلى لجنة الجمعية التشريعية في أمر التنظيم والإدارة وكانت اللجنة قد استعانت بآراء الخبراء والمختصين للنظر في مستقبل المشروع فكان رأي جيتسكل (مدير المشروع) أن مستقبل المشروع يتطلب إنشاء سلطة مركزية تنفيذية بالإضافة إلى مجلس للتخطيط وذلك من اجل بناء مشروع تعاوني للمزارعين لهدف مستقبلي.

أما المزارعون فقد كان اهتمامهم أكثر بالعائد السريع لرفع وتحسين مستواهم المعيشي وليس بالهياكل والتنظيمات والتخطيط المالي أو الإداري وكان النقاش يدور حول نقطة جوهرية هامة وهي أن طيلة تاريخ المشروع كانت سنوات الضائقة أكثر من سنوات الرخاء كذلك كان اهتمامهم أكثر بتمويل جزء علي الأقل من أعبائهم لجهة أو جهات أخرى.

واللجنة في النهاية لم تأخذ برأي جيتسكل ولا برأي المزارعين وجاءت توصياتهم مشابهة لرأي الحكومة في ذلك (1949م) وصدر قانون عام (1950م) مؤمناً علي نفس النسب القديمة (40%) للحكومة (40%) للمزارعين (20%) لمجلس الإدارة والزم مجلس الإدارة بصرف مبلغ من المال علي الأبحاث والزراعية و (2%) من العائد للخدمات الاجتماعية بشرط أن لا يقل الدخل عن (60 ألف جنيه) كحد ادني وألا يزيد عن نصف مليون جنيه كحد أقصي.

قدمت الحكومة للشركة تعويضاً بلغ (2.6 مليون جنيه إسترليني) بالنسبة المال الاحتياطي واتفقت علي تحويل الفائض من دخل مجلس الإدارة إلى حساب مال الاحتياطي وان يستمر الدفع بهذه الصورة حتى يبلغ الحساب ثلاثة مليون جنيه، بعدها أي زيادة تقسم مناصفة بين الحكومة والمزارعين بالتساوي.


( 14)

تنظيمات المزارعين:-
لم يكن للمشروع أي تنظيم نقابي وحتى الإضراب الأول الذي حدث في عام 1913م للشركة الزراعية قد تم بطريقة عفوية ودون تنظيم مسبق ولكنه كان يمثل بداية الوعي بالحقوق والمطالب وحدث بعد ذلك إضراب عام 1946م ذلك الإضراب الذي هز المشروع وكشف عن تضامن المزارعين ووعيهم وحسهم الوطني والسند الذي وجدوه من المثقفين الوطنين ومن أعضاء المؤتمر علي وجه خاص ولذلك تنبهت الحكومة بعد ذلك إلى أهمية أخذ زمام المبادرة بتكوين كيان للمزارعين يخرج من عباءتها قبل أن يفرض عليها من الخارج ويصعب السيطرة عليه وبادرت إدارة المشروع في عمل ترتيبات لاختيار ممثلين بأن يختار المزارعون في كل صمودية (وحدة القرية) واحداً منهم إلى مجموعة التفتيش الانتخابية والتي تقوم بدورها باختيار عضو واحد إلى الهيئة.

هيئة ممثلو المزارعين:-

]وتمت أول انتخابات لممثلي المزارعين بطريقة سرية لانتخاب رئيس الهيئة ونوابه ومساعديه فوقع الاختيار على: الشيخ أحمد بابكر الازيرق المزارع بتفتيش درويش ليكون رئيساً للهيئة ومعه السادة: - أبو الحسن عبد المحمود – موسى النعيم – محمد الطيب عمر- العبيد احمد – حمد النيل محمد حسن- يوسف احمد آدم وعقد أول اجتماع في مكتب مدير المديرية بمدني في يوم 8مايو 1947م وحضر الاجتماع كل الأعضاء وكان عددهم أربعين عضواً بجانب جيتسكل مدير المشروع والمستر بيكن باشمفتش زراعة المديرية وترأس الاجتماع مدير المديرية المستر بريدن.

هيئة مزارعي الجزيرة:

واستمرت هيئة ممثلي المزارعين حتى منتصف عام 1952م وتغير الاسم بعد ذلك إلى ( هيئة مزارعي الجزيرة ) كما تغيرت طريقة الانتخابات علي أن يكون مبنياً علي عدد المزارعين في كل تفتيش.

وبتاريخ 17 مايو 1952م ثم انتخاب الرئيس الجديد للهيئة ففاز الشيخ الازيرق لقيادة المزارعين مع بعضا من مساعديه وزملائه القدامى.

اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل:

طالب المزارعون بقيام اتحاد بدلاً عن الهيئة أسوة بالنقابات العاملة بالسودان وأخيرا وافقت الحكومة علي طلبهم وصدر قانون اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل لسنة 1954م وأجريت الانتخابات بإشراف لجنة محايدة وشارك في تلك الانتخابات تسعة وعشرون ألف وأربعمائة مزارع. وتم بعد ذلك انتخاب الضباط الثلاثة فجاء الآتية أسمائهم:

الشيخ الأمين محمد الأمين للرئاسة والشيخ يوسف احمد المصطفي للسكرتارية والشيخ عباس دفع الله لأمانة المال.

وشهدت تلك الفترة صراعات حزبية وتكتلات كبيرة بين قيادات الاتحاد والمعارضين من الأحزاب والتنظيمات السياسية رغم المكاسب التي تحققت للمزارعين في بعض المجلات.

وأجريت انتخابات ثانية في مايو 1956م واختيرت لجنة مكونة من تسعة وخمسين عضوا وفاز الشيخ جابر عثمان برئاسة الاتحاد والشيخ محمد عبد الرحمن نائب للرئيس والشيخ محجوب الأمين سكرتيراً والشيخ بابكر دكين أميناً للمال. وفي عام 1957م أجريت انتخابات وكانت المنافسة حادة بين جابر عثمان والشيخ بابكر الازيرق.. وفي فترات متعاقبة بعد ذلك تقلد رئاسة الاتحاد الشيخ النور النعيم ولفترة أخرى أيضا ثم انتخاب الشيخ عبد الرحيم أبو سنينة كما تقلد الشيخ الطيب العبيد ود بدر رئاسة الاتحاد لعدة فترات كما تعاقب علي السكرتارية كل من المشايخ: محمد عبد الله الوالى – حسن مصطفي- عبد الجليل حسن عبد الجليل – الأمين احمد الفكي. وعاد للرئاسة مرة أخرى الشيخ الأمين محمد الأمين والذي اختير وزيراً للصحة عقب ثورة أكتوبر في عام 1964م ممثلاً للمزارعين في حكومة أكتوبر.


( 15)

شخصيات:

تعاقبت علي مشروع الجزيرة عدد من الشخصيات التي تركت بصماتها الواضحة في مسار وسياسة المشروع ومن هؤلاء نذكر من البريطانيين:-

المستر آرثر جيتسكل(1):

تخرج جيتسكل من جامعة أكسفورد بدرجة الشرف في مادة التاريخ، تقدم للعمل في مشروع الجزيرة وتم اختياره في عام 1923م وكان وقتها في الثالثة والعشرين من عمره. وكان التحاقه بالعمل بمشروع الجزيرة الزراعي الناشئ حديثاً مجال تعليق واستغراب من زملائه الذين كانوا يفضلون العمل بالسلك الإداري بحكومة السودان في وظيفة مفتشين ومساعدي مفتشين، ومع ذلك فضل العمل بالمشروع في وظيفة مفتش غيط، حيث عمل عند تعينه بالقسم الأوسط من المشروع واستمر يعمل به خلال الفترة (1923-1927م) ولم تكن اهتماماته تنصب في الناحية الزراعية فقط بل امتد إلى نواحي إنسانية أخرى حيث اهتم بالإنسان الذي يعمل بتلك الحواشات والزراعات فخلق علاقات صداقة مع المزارعين وغيرهم من سكان تلك القرى، فقد كانت تربطه صداقة مع الشيخ البشير احمد الطريفي خليفة ود الطريفي صاحب القبة المشهورة بقرية الطلحة والشيخ احمد أبو سنينة والشيخ محمد مصطفي الحاج عبد الله والشريف بركات احمد طه بقرية الشرفة، انتقل بعد ذلك إلى تفتيش حمد النيل في القسم الجنوبي من المشروع وسلك نفس الطريق وعقد صداقات مع المزارعين الخليفة القرشي عثمان والخليفة احمد عبد الوهاب وعبد الله ود البشير والطبيب ود العوض والشريف عبد الرحمن الهندي.

برزت كفاءة جيتسكل في النواحي الإدارية والزراعية ونقل إلى الرئاسة ببركات في عام 1930م حيث أوكلت له وظيفة مفتش للحسابات وعمد في هذه الوظيفة أن يزور كلل تفاتيش المشروع ويلم كل صغيرة وكبيرة فيه. فكان بذلك هو المحافظ الذي أمكن له أن يلم النواحي الإدارية والزراعية والمحاسبية للمشروع بكل دقائقها وتفاصيلها. وبوفاة المستر اسكوت في عام 1945م صار مديراً للشركة الزراعية، ومنذ أن تولي إدارة المشروع في عام 1945م فتح المشروع علي مصراعية للسودانيين وللأجانب ودعاهم بإلحاح لزيارته والتعرف علي خصائص المشروع الفريدة بجانب ذلك امتدت صلاته بالكثير من الأوساط وبخاصة أوساط المثقفين السودانيين من الوطنيين وأصبح رئيساً لمجلس كلية غردون التذكارية وخلق صلات مع أساتذة وطلاب الكلية وخاصة من السودانيين، كما زار معهد التربية ببخت الرضا وتحدث في الإذاعة عن المشروع وحاضر عن المشروع في نادي الموظفين بود مدني. وكان صريحاً لا يخفي شيئاً وهذا كان جزءاً من شخصيته وفلسفته في الحياة. وكانت له مواقف صادقة وأمينة خاصة مع النخبة الوطنية حيث صرح بأنهم هؤلاء حكام السودان القادمون. وتحققت نبؤه جيتسكل بعد عشرة أعوام عندما صار الزعيم إسماعيل الأزهري أول رئيس لمجلس الوزراء – وكان خطابه ذلك قد كتبه في عام 1946م. وتمكن فيما بعد المستر جيتسكل من وضع كتابه عن مشروع الجزيرة، كان واحداً من أهم المراجع الأجنبية الذي كتب عن مسيرة المشروع ودافع فيه عن سياسته وفلسفته في إدارة المشروع. ويعتبر جيتسكل من أهم المديرين الذين تعاقبوا علي المشروع من الأجانب والسودانيين علي حد سواء وذلك لصافته الحميدة وأخلاقه الفاصلة وكفاءته العلمية ومقدرته الإدارية، وللخبرات الواسعة التي اكتسبها بعمله بالمشروع وتنقله في وظائفه منذ أن كان موظف بأحد تفاتيش المشروع إلى أن بلغ قمة الإدارة. وظل يعمل بالمشروع حتى تقديم الاستقالة وسودنه وظيفته ومغادرته للسودان. وظل يحمل ذكري طيبة للسودان والسودانيين ولمشروع الجزيرة.
________________________________________
(1) من كتاب عمر محمد عبد الله الكارب

(16)

شخصيات:

مكي عباس (1909-1979م):-

تخرج مكي عباس من كلية غردون التذكارية في عام 1931م وكان أول دفعته، عمل بالمدارس الوسطى معلماً، ثم نقل إلى معهد التربية ببخت الرضا فعمل مع المستر قرفيث والأستاذ عبد الرحمن علي طه ثم بعث إلى بريطانيا في فترة تدريبية وبعد عودته أوكلت إليه مشروع تعليم الكبار. وكانت البداية بقرية أم جر جنوب الدويم وشمال الكوة إبان فترة عمله بالمعهد وضع منهج التربية الوطنية استقال مصلحة المعارف في عام 1945م، وأصدر في الخرطوم صحيفة (الرائد) وشهدت صحيفة الرائد نقداً للسلم التعليمي وناقشت تقرير المستر براون ولكن الصحيفة أوقفت بعد فترة زمنية قصيرة.، سافر إلى بريطانيا ووضع كتاب عن قضية السودان تحت إشراف مس براهام بجامعة أكسفورد. بعد عودته إلى السودان اختير مكي عباس كأول سوداني إلى وظيفة محافظ مشروع الجزيرة في عام 1955م وشهدت تلك الفترة سودنة الوظائف القيادية بالمشروع وقد ترقى السادة: النور محمد نور الهدى إلى وظيفة المدير الزراعي وعبد المجيد عبد الرحيم إلى وظيفة مدير المحالج وحسني أحمد إلى وظيفة مدير المبيعات بالخرطوم ولندن.

وقد أظهر الأستاذ مكي عباس مقدرة إدارية فائقة وسرعة في اتخاذ القرارات واستطاع أن يحسم الكثير من قضايا الخلاف، كما قام بسودنة جميع وظائف المشروع القيادية والمساعدة وأعطى الفرصة الكاملة للسودانيين ليبرهنوا على كفاءاتهم وحسن إدارتهم ففتح الباب على مصراعيه معتمداً على الخبرة والكفاءة والأمانة.

استمر محافظاً حتى عام 1957م حينما قدم استقالته اثر اختلافه مع الحكومة حول بيع القطن وعمل بعدها بمنظمة الوحدة الإفريقية حتى عام 1962م، ثم اختير ليشغل منصب مدير مكتب السودان الاقتصادي بجنيف ثم عمل بعدها بمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) وظل يعمل خبيراً غير متفرغ للعديد من المنظمات الدولية وبعد المعاش استقر بالخرطوم. أصدر مجموعة من التقارير والمطبوعات في التخطيط الزراعي وفرص التعليم وتعليم الكبار والتنمية. وكان في كل المناصب التي شغلها والوظائف التي عمل بها مثالاً للموظف الكفء وكان اسماً ورقماً مشرفاً لبلاده في المحافل الدولية والمنظمات العالمية رحمه الله رحمة واسعة.

عند اختيار الأستاذ مكي عباس محافظاً للمشروع وصادف ذلك الموسم أن يحقق المشروع إنتاجية عالية مما حفز الأستاذ عبد الحليم علي طه زميل وصديق مكي عباس حيث عملا سوياً بمعهد التربية ببخت الرضا وكان وقتها عبد الحليم علي طه ملحق ثقافي بلندن فأرسل قصيدة بالشعر القومي مهنئاً صديقه وزميله بطريقته الخاصة. وكان عبد الحليم شاعراً قومياً بارزاً وله مجموعات في شعر الإخوانيات. وقد جمع ابن أخيه فيصل عبد الرحمن علي طه ديوان بين شاعرين وأصدره مركز عبد الكريم ميرغني. وأرسل عبد الحليم القصيدة التالية والتي سار بها الركبان واشتهرت في أواسط المعلمين وبين موظفي المشروع في ذلك الوقت فقد جاء فيها:-

المكي خوي قالوا القطن موفور والناس تدقش وسط الأناقي(1) تفور

واحد في الكبس وواحد وقع مزرور والفاقع كتر والفي التقى(2) المشرور

والنايم يقوم بادي الحرث في البور(3) الدر(4) انتشر جاي الأفندي مرور

والميزان قنت واتعسم الوابور والطرماج(5) فتر يبقى الجمل معزور

فبارك(6) في ذكر ليلها ونهاره تدور والدولاب يكر يبهل من المصرور

ترلة وقندران تنقل من المطمور تكتح في التراب قالبة البلد عتمور(7)

وجاياك المناقل والشرق بتدور مثل ناس الجنيد مستني الباجور(8)

وقددت البلد سويته كله بحور آبار إردواز تحت الأرض مأسور

وعلمت الكبار سوق العلم ما ببور وجاكم ود عمر مادح النبي المشكور

معلمنا القديم الحافظ المنشور واللايكا الصبر قاعد شهر مأسور(9)

وما أطول عليك بدي العلم في سطور وما بقع العكر بتصيد القرقور

خبر عبد المجيد(10)عن نفسه عن النور(11)وعن حسني(12)الوكيل في دولة المنصور

وعن أحمد(13) معاي بالتفة والقنبور إفراج في القطن صالب الخلق طابور

يقولي في العدم ما أظنه حث منظور يفكر مكي فيك ما تنتظر مسطور

المكي خوي ردك بدور لو شهور ما دام شايل الحرم(14) بكتب أنا المجبور

شمر بطونك وسوي وركك كور وكربت يا جمل دابك بقيت طرطور

واتهوزز سمح وانزل مع الدستور وسوي النوم تعال بعد الغنا الطمبور



(17)

منذ البداية وضعت الشركة الزراعية أساساً خاصاً عند توظيف مفتش الغيط كان أهمها ضمان سلوك الشخص من ناحية أخلاقه العامة وضمان صحته وتحمله للمشاق ورياضياً صبوراً، فإن وجدت هذه الصفات في زراعي فإنه يفضلونه عن الآخرين، وإن فقد الزراعي هذه الصفات فإنه لن يختار. وكان المطلوب من مفتش الغيط: طاقة وأمانة ومقدرة تنفيذية واحتمال المشاق ومقدرة على إدارة العاملين والعمل معهم والقدرة على تحمل الحياة الموحشة والقاتمة في الريف السوداني بأمراضه وانعدام سبل الترفيه وغير ذلك من المعوقات.

وكان مفتشي الغيط قد جاءوا من خلفيات مختلفة من معلمين وأساتذة جامعات وإداريين وزراعيين وفي البداية جاءوا جميعهم من البريطانيين، وكانت بداية المرتب أربعمائة جنيه سنوياً وتمنح علاوات سنوية مع بعض الامتيازات من إجازات وتأمين وكان يتم حثهم وتشجيعهم على تعلم اللغة العربية للتفاهم مع المزارعين دون وسيط. وبجانب البريطانيين عمل أيضاً مجموعة من الشوام والأقباط ولكن بمرتبات وامتيازات أقل من البريطانيين. أما الوطنيين السودانيين فلم تكن الشركة قد عينت منهم أحداً في تلك الفترة المبكرة واختصرت تعينهم في الوظائف العمالية والملاحظين وأخيراً الكتبة والمحاسبين وكتب السيد عمر محمد عبد الله الكارب في مذكراته عن مشروع الجزيرة موضحاً وشارحاً بتفاصيل دقيقة حالة السودانيين العاملين بالشركة والمعاناة الكبيرة التي كانوا يعانون منها من الباشكتبة وهم من الشوام والأقباط بالإضافة إلى معاملة المفتشين من البريطانيين وقد اضطر بعضهم إلى ترك الخدمة بالشركة بعد شهور أو أسابيع قليلة من التحاقهم بها وكان من هؤلاء محمد الباقر أحمد والذي التحق بالشركة في وظيفة كاتب وسجل تجربته المريرة مع الباشكاتب والمفتش مما دفعه إلى ترك الوظيفة والالتحاق بوظيفته في الحكومة وهو نفسه الفريق الباقر الذي أصبح قائداً للجيش السوداني فيما بعد.

أما أول من التحق من السودانيين بوظائف الشركة: السيد إمام وهو المسؤول عن البريد الوارد والصادر للمشروع، وعمر الكارب الذي تدرج في السلك الكتابي إلى أن وصل إلى وظيفة مساعد مدير، وعبد الله كرار وثلاثتهم تعينوا في العشرينات.

حياة الكتبة في المشروع:

ونموذج للمعاناة التي كابدها فئة الكتبة من السودانيين في ذلك الوقت المبكر نقتطف جزءاً من خطاب أرسله " محمد الباقر أحمد " لمؤلف الكتاب الكارب عندما قرر ترك الوظيفة بالشركة – ومحمد الباقر هو ذات القائد العسكري الذي قدر أن يلتحق فيما بعد بالكلية الحربية وتخرج منها وتدرج في الوظائف العسكرية ليبلغ درجة المشير وأصبح نائباً للقائد جعفر النميري.

ويقول الباقر في خطابه، وصلت التفتيش في المساء، أنزلني السائق في المكان المعد لسكناي ويتكون من (تكل) غرفة واحدة من الحجر بدون مطبخ وبدون حوش، نسيت أن أشتري لمبة أو كبريت فقضيت تلك الليلة في الظلام لم أستطع النوم، كانت ليلة مزعجة. لم أشاهد الباشكاتب في تلك الليلة وكان متزوجاً، ولدهشتي اكتشفت في الصباح أنه ليس هناك مرحاض، واكتشفت مرحاضاً مناسباً في طرف " أبو ستة " في العراء بالقرب من المكان !! لم أشرب شاياً في الصباح ولم أحضر معي قلة للشرب ولكني استطعت أن أتحصل على صفيحة بنزين فارغة وظللت أحضر الماء من الترعة للشرب والاستحمام. قضيت اليوم الأول عائشاً على الرغيف والجبنة التي اشترتها من مدني وجدت في اليوم الثاني لحماً ورغيفاً وبدأت الكفاح وترتيب أمري.

قابلت الباشكاتب وكان بارداً لدرجة أنني حسبت في بادئ الأمر أنه لا يتكلم ثم قدمت بعد ذلك للمفتش المسؤول والذي لم ينطق بكلمة واحدة. لم يسألني المفتش ولا الباشكاتب بخصوص سكني أو أي شيء آخر لم يقدم لي ولم يشرح لي أي عمل وظللت على ذلك أياماً، لقد بدأت رغبتي في العمل تتقلص، أصابتني الملاريا وقضيت يومين في التكل وحيداً، لا الباشكاتب ولا المفتش البريطاني كلفا خاطريهما لرؤيتي وفي اليوم الثالث لمرضي طلبوني بالتلفون وأخبروني أن الحكومة عرضت علي وظيفة للعمل معها. وسألوني عما كنت أريد البقاء أم الذهاب ؟ وليس هناك أي خيار لآي أحد في مكاني غير القبول والذهاب، انتهى الخطاب.

ويبدو أن هذه هي طبيعة الحياة الجافة وزاد من سوئها وجفافها المعاملة غير اللائقة وغير الكريمة من قمة المسؤولين في الأعمال الإدارية الباشكاتب والمفتش وكلاهما من الأجانب، والواضح أنهم لم يكن يرغبون في رؤية السودانيين في أي وظائف حتى وإن كانت وظائف في قاع السلم الإداري. ومع ذلك صمد البعض منهم وبرهنوا كفاءة ومقدرة وشجاعة وصبر وتحمل يفوق طاقة الإنسان العادي، وبعضهم أخذ الأمر كرسالة وواجب وطني تمليه عليه سودانيته ووطنيته. فكان لهم ما أرادوا فكانوا رأس الرمح الذي أتاح للكثير من السودانيين الالتحاق بتلك الوظائف وغيرها فيما بعد.

(18)

شخصيات في المشروع: السيد عمر محمد عبد الله الكارب:
السيد عمر محمد عبد الله الكارب – وهو مؤلف كتاب: الجزيرة قصة مشروع الجزيرة ورحلة عمر – والذي صدر في عام 1994م في (480)ص وكان واحداً من المراجع الأساسية التي اعتمدت عليها في إعداد هذه الحلقات وقد خصص الفصل الثالث والرابع من الكتاب لجانب من سيرته الذاتية وكان عنوان الفصل الثالث رحلتنا في مشروع الجزيرة. والفصل الرابع أخذ عنوان: وتتوالى ذكرياتي في الجزيرة.
يذكر السيد عمر محمد عبد الله الكارب بأن والده كان يعمل محاسباً بالحكومة وبعد تقاعده بالمعاش عمل مزارعاً بقرية (ود البر) – السيد عمر من مواليد عام 1910م تقريباً وولد بمدينة رفاعة حيث كان والده يعمل محاسباً بمركز رفاعة ودخل الأولية بمدرسة رفاعة وبعد إتمامها انتقل إلى مدرسة ودمدني الأميرية التي قبل فيها بالمجان عام 1921م وعاد والده إلى ودمدني في عام 1922م بعد تقاعده بالمعاش – وفي عام 1923م امتلك الوالد حواشة بالمشروع وحواشة أخرى باسم ابنه عمر – فكان بذلك عمر من أوائل المزارعين الذين امتلك حواشة بالمشروع في ذلك العمر وقد باشر بنفسه إدارة الحواشة مع معاونة والده مع مواصلة دراسته بالمدرسة الوسطى. وبعد إتمامه المدرسة الوسطى تعين موظفاً بالحكومة في وظيفة كاتب بمديرية كسلا في عام 1925م. واستقال من خدمة الحكومة والتحق بخدمة الشركة في وظيفة كاتب في عام 1929م عندما تم تعيينه إثر توصية من باشكاتب مديرية كسلا إلى صديقه الشامي الذي كان يعمل بمشروع الجزيرة ببركات. وفي تلك الفترة وجد بالمكتب موظفاً سودانياً واحداً السيد إمام الحاج عمر، الذي كان مسؤولاً عن البوستة وتوزيع الخطابات والذي كان يسكن في إحدى قطاطي المشروع ببركات، وقد رحب إمام باستضافة الكارب للسكن معه بالقطية والتي كان يطلق عليها الإنجليز (التكل) وكانوا أربعة أشخاص محشورين في هذا المبنى الضيق. وذكر أيضاً من زملائه الكتبة في ذلك الوقت محمد عبد الرحمن الأقرع الذي كان يعمل كاتباً بالقسم الميكانيكي. وبركات هي رئاسة المشروع ويذكر المؤلف أن التسمية قد جاءت من الشيخ أحمد ود الفكي شيخ حلة أم سنط النور، أما الرواية الثانية تزعم أن مفتش الجزيرة البريطاني في ذلك الوقت (1914م) هو الذي اقترح الاسم تيمناً باسم (الشريف بركات) ويذكر الكارب انضمام الموظف الوطني الثالث لهم في بركات في عام 1932م عبد الله كرار في وظيفة كاتب وهو الذي أشرف على دار الوثائق (بمشروع الجزيرة) وسافر إلى المملكة المتحدة لتلقي كورسات في الوثائق والأرشيف والمحفوظات سجل الكارب معاناة الوطنيين من الكتبة والمحاسبين في عملهم وفي حياتهم اليومية وما وجدوه من مضايقات من الأجانب ولكنهم تعاهد ثلاثتهم على الاستقامة في السلوك والمعاملات والأخلاق حتى لا يتركوا ثغرة للكيد لهم، مع الكفاءة في العمل والأداء بدرجة تفوق أقرانهم مع كسب ثقة البريطانيين من الرؤساء وتخطي الباشكتبة الذين يشكلون حاجزاً بينهم وبين القيادة وكانوا يهدفون إلى أن يبرهنوا على كفاءة المواطن السوداني، وإبعاد شبهة التواكل والكسل التي حاول بعضهم إلصاقها بهم. وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح فكانت هذه بدايات الثقة في الموظفين السودانيين وانفتح الباب أمام التعيينات الجديدة من الوطنيين في الكثير من الوظائف بما في ذلك وظائف المفتشين.

وظل السيد عمر الكارب بالمشروع مواكباً مسيرته بعزم وإصرار متقلباً في وظائفه بالسلك الكتابي حتى تبوأ وظيفة نائب المدير العام وظل طوال حياته متمسكاً بأهداف عليا وبمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات. كما أصبح عضواً في مجلس إدارة الجزيرة – وكانت أهم إنجازاته في المشروع اهتماماته بتدريب وتأهيل السودانيين وإتاحة الفرصة لهم لسودنة الوظائف من البريطانيين والأجانب. وقد نال عمر الكارب ثقة رؤسائه وخاصة من البريطانيين مثل المستر جيتسكل الذي كان يثق فيه كثيراً وبمثابة المستشار له وخاصة فيما يتعلق بالموضوعات والقرارات التي تخص المزارعين، اتسم وعرف بالشجاعة في الرأي وتميز بالحزم وكان يعمل بصمت ولا يحمل ضغينة على أحد كما وصفه زملائه وتلاميذه وأصدر كتابه عن المشروع كأول مذكرات لوطني بعد مذكرات المحافظ البريطاني جيتسكل.

(19)

الشخصيات :

من الشخصيات السودانية التي عملت بالمشروع وورد ذكرها في كتاب السيد الكارب:

- صلاح الدين متولي: والذي التحق بالمشروع في عام 1953م مفتشاً بالغيط ثم عمل مدير قسم المناقل ثم نقل إلى قسم الصحافة والإعلام بالمشروع وتوفي بلندن في عام 1965م.

- السيد عثمان الطاهر: التحق بالمشروع في عام 1932م في وظيفة عامل بالورشة رغم أنه تخرج من المدرسة الإرسالية الوسطى، وعندما تولى جيتسكل إدارة المشروع وفكر في إرسال عمال للتدريب بإنجلترا وقع الاختيار على عثمان الطاهر ويوسف عز الدين وتم إرسالهما لفترة تدريبية قصيرة في عام 1951م وعاد عثمان للورشة مواصلاً عمله ثم بعث مرة أخرى إلى المملكة المتحدة لفترة دراسية لمدة عامين عاد بعدها ليتسلم وظيفة مدير الورشة في عام 1957م وظل في العمل حتى وفاته رحمه الله.

- السيد عبد الله كرار تعين في عام 1932م في وظيفة كاتب بالمخازن وظل يتدرج في الوظائف الكتابية حتى عين أميناً لدار الوثائق برئاسة المشروع.

- يوسف عز الدين – التحق بخدمة الشركة في عام 1940م وهو يحمل دبلوم صناعي من القاهرة وعمل بورشة مارنجان – حتى ترقى إلى وظيفة مساعد ملاحظ في عام 1951م. حيث أرسل إلى فترة تدريبية لفترة إلى مدينة ليفربول البريطانية للتدريب على الآلات الزراعية وفي عام 1953م أرسل لفترة تدريبية لمدة عامين وبعد عودته أصبح المهندس المسؤول عن المحاريث ثم ترقى إلى وظيفة كبير المهندسين الميكانيكيين في عام 1975م حتى تقاعده للمعاش في عام 1981م بعد أن أمضى أربعون عاماً من الخدمة الطويلة الممتازة بمشروع الجزيرة وكان له الفضل في تطوير قسم المحاريث والذي يعتبر من أهم أقسام المشروع.

- الأستاذ محمد عمر أحمد: كان أستاذاً بمعهد التربية ببخت الرضا ويعتبر الرائد الأول لبداية تجربة تعليم الكبار في المشروع عام 1948م بالقسم الجنوبي – تفتيش الحوش، وكانت مهمة صعبة للغاية في ذلك الوقت كما وصفها الكارب. وبمثابرة وجهد الأستاذ محمد عمر أحمد نجحت التجربة. حيث اقتنع المزارعون بفائدتها الجمة خاصة في مجال الإرشاد النسائي والزراعي، وأخذ المزارعون يتسابقون لنقل التجربة إلى مناطقهم وقراهم، ما لبث أن نقل إلى الخرطوم ومنها للعمل بالجنوب ليصبح عميداً لمعهد التربية بمريدي ثم عاد مرة أخرى للعمل بالجزيرة في عام 1957م ضابطاً للخدمات الاجتماعية. ثم اختير للعمل سفيراً بوزارة الخارجية عقب الاستقلال. وخلال عمله بقسم الخدمات أسس وخطط ونفذ العديد من المشروعات التي عادت بالفائدة للمزارعين. وقد أقام له اتحاد المزارعين حفل وداع ضخم عند اختياره للخارجية وسفره للخرطوم.

- السيد علي أبو النجا: ويعتبر أبو النجا أول سوداني يدخل في خدمة الشركة الزراعية بالزيداب في عام 1918م – وكانت بداية عمله بالمحالج، وكان أول سوداني يصل وظيفة باشملاحظ بالمحالج وتوفي في عام 1934م.

- السيد إمام الحاج عمر: من مواليد 1907م من مواليد قرية ود سليمان (المسلمية)، تم تعليمه الأوسط بالخرطوم وعمل بالمشروع في عام 1925م في وظيفة كاتب وظل يتنقل في الوظائف الكتابية حتى وصل إلى وظيفة الضابط الإداري بالمشروع إلى أن تقاعد في عام 1962م.

- السيد محمد بليل: من مواليد تنقسي (1904م) عمل أول الأمر وزاناً للقطن في محطة طيبة ثم انتقل للعمل في محلج مارنجان عام 1924م حتى وصل إلى وظيفة ملاحظ ثم ترقى إلى وظيفة مفتش محلج حتى تقاعده للمعاش.

- السيد علي عبد الله الباشا (1890-1987م) كان من أوائل السودانيين الذين عملوا بمشروع الجزيرة وأوكلت له مهمة الإشراف على بيت الضيافة (استراحة بركات) والذي كان مقراً لكبار الضيوف والزوار للمشروع منذ التأسيس وإلى يومنا هذا كان يعتبر الباشا من الشخصيات الاجتماعية البارزة منذ إنشاء مدينة بركات.


(20)

شخصيات في المشروع:

نواصل العرض للشخصيات التي تركت بصماتها بمشروع الجزيرة وفقاً لرواية المرحوم عمر عبد الله الكارب التي سجلها في كتابه" الجزيرة: قصة مشروع ورحلة عمر".

- أحمد بابكر الازيرق – من مواليد قرية النعيم بالقسم الأوسط في عام 1890م بدأ حياته مزارعاً في عام 1912/1913 1912/1913م وترك الزراعة للعمل بالتجارة لفترة من الوقت ثم عاد مرة أخرى للمشروع بتفتيش درويش في سنة 1922م – ظهر كقائد للمزارعين في إضراب عام 1946م وتولي رئاسة اتحاد المزارعين في عدة دورات ومن إنجازاته شارك في اجتماع الجمعية التأسيسية للنظر في قانون مشروع الجزيرة عام 1950م. وكان لآرائه وزن كبير في بنود القانون واستمع له أعضاء الجمعية بكل حواسهم.ومن إنجمدني.عمل علمدني.د الاستراحات بالمستشفيات وإقامة أجزخانة للمدني.ن بود مدني. ساعد في فتح الكثير من المدارس الأولية والوسط بمدن وقري الجزيرة توفي رحمة مولاه في عام 1983م.

- السيد أحمد النوارني الزبير من مواليد 1909م بالمديرية الشمالية أكمل المرحلة الوسطي والتحق بالمشروع في وظيفة بالمخازن وتدرج فيها حتى وصل إلى وظيفة رئيس المخازن العمومية واشتهر بالأمانة والصدق ونزاهة اليد وظل بالخدمة لفترة خمسون عاماً حتى تقاعده للمعاش في عام 1968م.

- السيد محمد عمر عباس – من طليعة خريجي مدرسة أمد رمان الثانوية الصغرى التجارية والتحق بالعمل بالشركة في عام 1945م في وظيفة محاسب واستمر حتى عام 1954م عندما تم اختياره للعمل مفتشاً بالغيط وكان من ابرز المحاسبين بالمشروع كما كان من ابرز المفتشين في وظيفته الجديدة لما له من سابق خبرة وخلفية في المشروع وترقي إلى وظيفة باشمفتش في عام 1957م وكان من المبرزين في هذا المضمار عملا وسلوكاً ونزاهة بالمشروع حتى استقال في عام 1967م بعد رحلة حافلة بجلائل الأعمال والإنجازات.

- السيد احمد محجوب اختاره السيد مكي عباس محافظ المشروع آنذاك ليسودن وظيفة ضابط الصحافة والأعلام بمشروع الجزيرة وقد أسس المكتب بصورة جيدة وقدم خدمات عالية في مجال الأعلام للمشروع ومقابلة الزوار ثم انتدب للعمل ليكون وكيل إدارة الجزيرة في تسويق القطن في المملكة المتحدة، وظل بخدمة المشروع حتى تقاعده.

- السيد صالح محمد صالح – أول مدير سوداني لمشروع الجزيرة بعد تأميمه وكان من أوائل السودانيين الذين التحقوا بالعمل بالمشروع في وظيفة مفتش غيط (1951) وكان قبلها يعمل مهندساً في مصلحة المساحة في عام 1958م تمت ترقيته إلى وظيفة نائب المدير العام للمشتريات في رئاسة المشروع ببركات. وفي عام 1963م تمت ترقيته إلى وظيفة المدير العام وفي الفترة 1964-1966م كان يقوم بوظيفة محافظ المشروع بالإنابة ثم انتقل بعد إلى البنك الزراعي السوداني في وظيفة مدير عام ورئيس مجلس الإدارة. كان في كل المواقع التي عمل بها اتسم بالمقدرة والكفاءة العالية.

- السيد إبراهيم محمد احمد (رئيس العمال): عمل بالورش والمخازن والمحالج وعندما برزت نقابة العمال كان واحداً من قادتها وظل رئيساً للنقابة لعدد من الدورات وشهد له أقرانه بالكفاءة وحسن الإدارة وقوة الحجة.

- السيد تاج السر عابدون: كان أحد قيادات العمال بالمشروع وكان من المخططين البارعين في التنظيم وقيادة العمال وتنظيمهم – تعرض للسجن في أيام عبود واضطر للاستقالة وترك الخدمة ولكنه كشف عن معدن أصيل ومقدرة فائقة وحسن التنظيم.

- الشيخ احمد يوسف علقم كان من ابرز المتحدثين باسم المزارعين منذ إضراب عام 1946م عين عضو بالجمعية التشريعية في عام 1948م وعرف بالمدافع الأول عن حقوق مزارعي مشروع الجزيرة وراس هيئة المزارعين في مطلع الخمسينات عند تكوينها.

- الشيخ الأمين محمد الأمين – من قبيلة الحلاوين كان رجلاً ذكياً شجاعاً كانت فترة توليه لقادة اتحاد المزارعين من أصعب الفترات في مشروع الجزيرة وخلقت تلك الفترة وعياً لدي المزارعين واستطاعوا أن يتحصلوا علي حقوقهم والاشتراك في عضوية مجلس إدارة مشروع الجزيرة لأول مرة. اختير وزيراً في حكومة أكتوبر ممثلاً للمزارعين.

- السيد سالم عامر – عيين مساعداً لضابط البساتين البريطاني وبعد سودنة الوظائف تولي سالم إدارة قسم البساتين – أوفد إلى بعثات وزيارات لعدد من الدول، واستطاع سالم أن يجعل من الجزيرة وميادينها جنة خضراء.

- السيد عبد الجليل حسن عبد الجليل – كان والده من قادة المزارعين المرموقين تولي رئاسة اتحاد المزارعين في عدد من الدورات.

- الطيب العبيد النور ينتمي إلى المنزل الديني المعروف "ود بدر " اختير رئيس للاتحاد في عدد من الدورات وعضو مجلس الإدارة.

- الشيخ الأمين احمد الفكي – تولي سكرتارية وأمانة الاتحاد في عدد من الدورات وعرف بنزاهته ونطلعه نحو القيادة وخدمة المزارعين واشتهر بالتسامح وحسن إدارة الجلسات.


(21)



المراجع والقراءات:-
- جيتسكل: مشروع الجزيرة ( كتاب باللغة الإنجليزية).

- د. عبد الوهاب بوب: محاضرات طلاب قسم التاريخ عن رسالته للدكتوراه عن " مشروع الجزيرة ".

- الكارب ( عمر محمد عبد الله ): الجزيرة: قصة مشروع ورحلة عمر.

- محاضرات ووقائع المجلس الاستشاري لشمال السودان (1946م).

- محاضرات ووقائع الجمعية التشريعية (1948م).

- التقارير المالية والإدارية لحكومة السودان (1900-1955م ).

- تقرير الحاكم العام (1900-1950م ).



--------------------------------------------------------------------------------

(1) الأناقي: جمع انقاية وهي من تقسيمات الحواشة لسهولة ريها.

(2) التقى: مكان جمع المحصول

(3) البور: الأرض الغير مزروعة

(4) الدر: النمل الأسود الصغير

(5) الطرماج: الترماي كناية إلى قطارات المشروع الصغيرة

(6) فبارك: الفوبريكة (ماكينات الحلج )

(7) العتمور: صحراء العتمور المشهورة

(8) الباجور: المشروع الزراعي

(9) مأسور: كان الأستاذ محمد عمر قد أسره المتمردين عندما كان يعمل مديراً لمعهد مريدي في عام 1955م.

(10) عبد المجيد عبد الرحيم: مدير المحلج

(11) النور محمد نور الهدى: المدير الزراعي

(12) حسني أحمد: مدير المبيعات

(13) أحمد: غير معروف المقصود

(14) الحرم: كريمة مكي عباس

ليست هناك تعليقات: