" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الأربعاء، مايو 26، 2010

محاكمة سقراط

خمسمائة قاض وقاض جلسوا ، الواحد بجانب الآخر ، على المدرج ذي المقاعد الخشبية المغطاة بالحصر ، وفي مواجهتهم ، رئيس المحكمة محاطاً بكاتبه والحرس . وفي أسفل المدرج وضع الصندوق الذي سيضع فيه القضاة أحكامهم بعد انتهاء المحاكمة . الجلسة علنية . ولا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور . أما الطقس ، فقد كان جميلاً ، مما ادخل الارتياح إلى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس أو برد يعطل تواصل الأفكار . وإذا بدا لنا أن انعقاد محكمة في الهواء الطلق أمر مستغرب بل وطريف ، اليوم ، فلنتذكر إننا في أثينا ، في صباح من ربيع عام 399 قبل الميلاد .

أثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة ، لقد هزمتها إسبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة ، وفرضت عليها شروطاً قاسية . منها نظام "الثلاثين مستبداً " بقيادة احد أبنائها ، (كرينياس) الذي تخلص منه الأثنيون منذ وقت ليس ببعيد . في هذا الجو من القنوط الوطني . كثرت الأحقاد وتعددت حوادث تصفية الحسابات لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في أثينا ، وعددهم ستة الاف ، مواطنون متطوعون يجري إخبارهم سنوياً بشكل عشوائي . وهم يوزعون ، بعد الاختيار، في اثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض وقاض .

متهم اليوم شيخ ذو لحية بيضاء وثياب رثة . انه ابن النحات (سوفرونيسك) والقابلة (فيلا ريت) وهو الملقب (بسقراط ).
لكن ما هي التهمة التي سيحاكم اليوم على أساسها؟ لقد اتهمه احد المواطنين ، ويدعى (مليتوس) ، بالكفر بالآلهة وبإدخال شياطين جديدة إلى المدينة وإفساد الشبيه . وهي تهمة تستحق عقوبة الموت .
ومن هو سقراط هذا ؟ انه رجل بلغ السبعين من عمره ، قبيح المنظر بعينية الجاحظين وانفعه الأفطس ووجهة الممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة والمكونة من معطف صوفي لا أزرار له ولا حزام . وفوق كل ذلك ، فأنه لا يمشي إلا حافي القدمين ، في الصيف كما في الشتاء .
في بدء الجلسة ، ولم يكن في نظام المحاكمات آنذاك ما يسمى اليوم بالادعاء العام ، وقف المدعي الأول (مليتوس) يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع . وأعقبه مدعيان آخران (ليكون وانيتوس) وكلهم طلبوا الحكم بالإعدام على " العجوز الشرير " . (ولانيتوس) هذا مبرر آخر للادعاء على سقراط فقد كان ابنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف و " مضللاً به " وهذا ما يفسر انشغاله عن صنعه أبيه وهي الاتجار بالجلود . يضاف إلى ذلك أن سقراط تهكم عليه مرة أمام الناس خلال مناقشة ظهر فيها الجاهل وحديث النعمة على قدر كبير من السخف . ومن سوء طالع العجوز أيضا ، أن (كرينياس) ، المستبد الدموي والعميل لإسبارطة ، كان من بين تلاميذه ، في فترة من فترات حياته . اتخاذه كريتياس وآخرين غيره ممقوتين في مجتمعهم تلامذة له هو من قبيل انفتاحه على الجميع ودون النظر إلى أرائهم السياسية والفلسفة أو إلى نمط الحياة التي يعيشون . وإذا توخينا الاختصار ، قلنا إن سقراط ، بأفكاره ومناقشاته ، بدأ يصبح شخصاً مزعجاً ، ليس للسلطات فقط ، بل للآباء الذين رأى بعضهم أبناءه يخرجون عن طاعته ويلحقون بالمعلم.
بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم . ومن إجراءات المحاكمة الأثينية في ذلك العصر أن يتولى المتهم شخصياً الدفاع عن نفسه . وإذا كان غير قادر ، فان محترفاً يقوم بتلقينه الدفاع وتحفيظه إياه عن ظهر قلب . ويجب أن يستغرق الوقت الذي استغرقه الادعاء لا أكثر .
بدأ سقراط دفاعه برد التهم ومن ثم ، بالانتقال إلى الهجوم ، قال إن من يدعي العلم ، من بين كل من ناقشت وحاورت ، إنما هم جهلة ولا يفقهون من العلم شيئاً والحقيقة هي إني أعلم الناس . ذلك لان الناس يعتقدون إنهم يعرفون شيئاً وهم، في الواقع، لا يعرفون أي شيء. أما أنا فأني اعرف إني لا اعرف.
وانتهى سقراط بتحذير القضاة من الحكم عليه بالموت . وأن فعلوا فإنهم لن يجدوا مثله وسيغرقهم الإله والاثنيين في سبات ابدي . أما إذا لم يفعلوا فسيعود إلى نشر أفكاره كما فعل دائماً وكما أوحى له ضميره.
لم يستدر سقراط عطف القضاة كما يفعل عادة المتهمون الماثلون أمام مثل هذه المحكمة . لقد قال ما قاله وجلس دون أي انفعال. أما القضاة ، فقد بدأوا ينزلون المدرج ليضع كل واحد منهم حكمة في الصندوق . هذا الاقتراع هو أولي . انه ينحصر في تقرير تجريم أو عدم تجريم المتهم.

قضت نتيجة التصويت بتجريم سقراط بفارق بسيط في الأصوات : 281 صوتاً ضد 220 . ويقتضى القانون الأثيني ، في هذه الحال ، أن يعين المتهم نفسه العقوبة التي يراها هو مناسبة له . وقف سقراط وأعلن انه يسره أن تتعهده( البريتانية ).... وتعالى الصخب وصياح الاستنكار من الحضور الذين رأوا في كلامه تهكماً وسخرية من هيئة المحكمة ومن كل الموجودين . ذلك لان البريتانية مؤسسة أثينية تتعهد عظام الرجال وتتولى تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم .

ما أن سمع القضاة كلام سقراط ، حتى قرروا أن يصوتوا بأنفسهم على نوع العقوبة ومستواها . نزلوا ثانية إلى حيث الصندوق وصوتوا على أن يكون الحكم بالإعدام هو الجزاء الذي يجب أن يناله سقراط وذلك بأغلبية كبيرة . لقد أوقع الرجل نفسه في التهلكة بعد أن كان يمكنه أن ينقذها بتصرف آخر. فقد أكد للجميع انه يسعى للموت بكل رغبة وحماس .

مضى شهر على صدور الحكم . أما طريقة التنفيذ فهي الأسهل من بين لائحة لا يخلو بعض بنودها من العنف :
تجرع كمية من سم يحضر خصيصاً للمناسبة .
خلال هذا الشهر . جاءه (كريتون ) احد تلامذته المخلصين ، عرض عليه أن يقبل الهرب من السجن ، بعد أن يتدبر كريتون أمر رشوة الحراس ، فرفض سقراط قائلاً بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت هذه القوانين جائزة .

هذا الشهر الذي فصل بين صدور الحكم وتنفيذه ، أمضاه سقراط بهدوء أدهش المتصلين به من حراس ونزلاء . أما لماذا ابقي شهراً كاملاً ينتظر مصيره ، فهذا يعود إلى أن تنفيذ أحكام الإعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية آنذاك إلا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس .
وفي اليوم التالي لهذه العودة ، تجمهر تلامذته في السجن ووصلت زوجته . وما أن رأته والحراس يفكون أصفاده تمهيداً للإعدام، حتى أجهشت بالبكاء ونتفت شعرها ومزقت ثيابها:
-آه يا زوجي ! هذه أخر مرة تتكلم وأخر مرة ترى فيها أصدقاءك ! .. تأثر سقراط وطلب إليها أن تذهب . ثم التفت نحو أصدقائه وبدأ يحدثهم ويتناقش وإياهم في مواضيع مختلفة في الفن والموت والروح .... وبينما هو كذلك ، إذ بالجلاد يقاطعه :
-لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، وإلا يفقد السم مفعوله وللمرة الأولى ينفعل سقراط ويقول للجلاد:
-لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك .
وعاد إلى التحدث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من إخفاء إعجابهم ودهشتهم . لقد استطاع هذا الإنسان أن ينتصر على غرائزه وعلى مخاوفه . وعندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول :
-أريد أن أوفر على النساء تنظيف جثة ميت . طال الاستحمام والجلاد ينتظر على الباب . ولما خرج سقراط ، اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم . قدمه إليه وقال له :
-سقراط اعرف انك لن تشتمني كما يفعل الآخرون . أنت عاقل وتستطيع أن تتحمل قدرك .
-مرحى لك ! هيا . ماذا علي أن افعل ؟
-لا شيء سوى خطوات قليلة بعد التجرع . وعندما تشعر بثقل في ساقيك ، عليك أن تستلقي والباقي يتولاه السم نفسه .
وتناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء . لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم:
-ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه أريد أن أموت بصمت الخشوع . فتمالكوا مشاعركم .
وصمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما أشار جلاده . وجاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له :
-هل تشعر بشيء؟
-كلا
وطفق الجلاد يشرح للحاضرين أن الموت يصل إلى القلب بعد أن تبلغ البرودة الرجلين والبطن.
وعندما شعر سقراط بهذه البرودة تصل إلى بطنه ، أشار إلى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف :
-كريتون ، في ذمتنا (ديك لا يسكولاب) . ادفع له ثمنه دون نقاش .
-حاضر يا سيدي . هل تريد شيئاً آخر ؟
لم يجب سقراط . لقد أغمضت عيناه ...
" ديك لايسكولاب " إنها لا شك عبارة أراد بها سقراط التهكم على اله الطب . لم يوفر سخرياته على الآلهة ، حتى وهو على وشك أن يموت ! وما الموت بالنسبة له ؟ اليس هو التحرر ؟ اليس الشفاء من مرض هو الحياة ، كما كان يردد دائماً ؟
هذه الجملة التي قالها سقراط قبل موته ، والتي تمثل التشاؤم الهادئ والساخر بأبرز معانيه ، كانت عبارة رسالة من أول رجل أعدم في التاريخ بسبب أفكاره .

ومازال سقراط الذي يمكن اعتباره أبا الفلسفة الغربية، شخصية يكتنفها الغموض بشكل عام؛ وذلك عائد، ربما، إلى أنه لم يترك لنا أي أثر مكتوب. فقد عرفناه إما من خلال المشنعين عليه (كأرستوفانس) في كتابه (السحب الجشاء Les Nuées)، الذين صوروه كشخص مثير للسخرية أو كسفسطائي خطير، أو من خلال أتباعه المتحمسين (ككسينوفانس وأفلاطون وأرسطو)، الذين صوروه، وفق المنقول المعروف، كـموقظ استثنائي للنفوس وللضمائر. لذلك نرى أفلاطون (الذي كان تلميذه) طارحًا عقيدته على لسانه؛ فسقراط كان بطل معظم حوارات هذا الأخير. من تلك الحوارات الأفلاطونية نذكر تحديدًا بـدفاع (سقراط وفيذون) اللذين ترد فيهما كل المعلومات المتعلقة بحياة أب الفلسفة وموته. ونتذكر هنا، للطرافة، ما جاء على لسان (ألكبياذس )في نهاية محاورة المأدبة، حين قارن بين قبح سحنة سقراط العجوز وبين جمال أخلاقه، مشبهًا إياه بالتمثال المضحك لسيليني الذي كان يتوارى خلفه أحد الآلهة.

ليست هناك تعليقات: