" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الأربعاء، مايو 26، 2010

سويسرا والانقلاب على الديمقراطية!

د. محمد عابد الجابري
عرفت الأسابيع الثلاثة الأخيرة وقائع سياسية/ إيديولوجية تعرضت فيها الديمقراطية لعمليات قلب إيديولوجي ممسوخ، وذلك في أكثر الجهات تغنياً بالديمقراطية وافتخاراً بممارستها: في سويسرا، وإسرائيل، وعلى لسان أوباما رئيس الولايات المتحدة الأميركية. ولننظر في هذه العجالة كيف وقع هذا القلب الإيديولوجي الذي كشف عن تحميل الديمقراطية ما لا تحتمل من ممارسات معاكسة لمضمونها مع الاحتفاظ ببعض مظاهر شكلها.

الديمقراطية dēmokratía، في أصل معناها، مفهوم يوناني يجد مرجعيته في أثينا (المدينة/الدولة اليونانية) كما مورس فيها الحكم في القرن الخامس قبل الميلاد. وهذا المفهوم مركب من كلمتين: الأولى "ديمو" ومعناها "الشعب"، والثانية "كراطوس" ومعناها "السلطة"، وبالتالي فالديمقراطية تعني "سيادة الشعب" أي حكمه نفسه بنفسه. والمقصود ليس الشعب كله بل فقط قسم منه هم "المواطنون" وحدهم، وهم: الرجال دون النساء، والأحرار دون العبيد، وأهل البلد دون الأجانب. وحسب تقدير المؤرخين فمجموع المواطنين في أثينا "الديمقراطية" لم يكونوا يتجاوزون أربعين ألفاً من أصل مائتين وخمسين ألف نسمة من السكان.

ولم تكن الديمقراطية الأثينية مجرد نوع من بين أنواع أخرى عرفها اليونان كالتيموقراطية (الحكم الاستبدادي) والأوليغارشية (حكم الأغنياء) والأرسطوقراطية (حكم الأعيان)... الخ، بل كانت أيضاً نظاماً سياسياً يقوم على أن "السيادة للشعب" (المواطنين) يمارسها بنفسه بحيث يوافق على القوانين والقرارات المهمة ويختار بنفسه من يتولى تنفيذها. وهذا ما اصطلح على تسميته بــ"الديمقراطية المباشرة"، تمييزاً لها عن "الديمقراطية غير المباشرة"، أو "التمثيلية"، التي يختار الشعب فيها ممثلين ينوبون عنه في ممارسة الحكم باسمه. ومع أن الديمقراطية الأثينية تعتبر ديمقراطية مباشرة إلا أنها كانت في الواقع -كما يرى بعض المؤرخين- تجمع بين الشكلين، المباشر وغير المباشر، إذ كان هناك ما يمكن تسميته بـ"مجلس الخواص" وعدد أفراده نحو خمسمائة عضو، مهمتهم تلقي اقتراحات الشعب وصياغتها في قوانين، لتعرض على "الجمع العام"، للمواطنين، الذي وحده له صلاحية الموافقة عليها أو رفضها.

وواضح أن هذا النمط من "الديمقراطية المباشرة" ليس من النوع الذي سمي فيما بعد بـ"الاستفتاء". ذلك أن "الاستفتاء" بالمعنى المعاصر للكلمة (Référendum من اللاتينية، referre: (كتابة تقرير، عرضه على جمعية) تشرف عليه الحكومة. ويشمل هذا الإشراف تنظيم عملية الاستفتاء واقتراح موضوعه: قرار أو قانون لموافقة الناخبين عليه. وواضح أن "الاستفتاء" لا يكون ديمقراطيّاً إلا إذا كانت الحكومة المشرفة عليه حكومة تأسست على أساس الديمقراطية التمثيلية. أما إن كانت غير ذلك فالاستفتاء الذي تقيمه مطعون في نزاهته سلفاً، لأنه مبني على الانقلاب على الديمقراطية.

وهناك جانب آخر يتعلق بمصداقية الديمقراطية، مباشرة كانت أو تمثيلية، وهو مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، المبدأ الذي ألح عليه المفكر الفرنسي مونتيسكيو (1689- 1775). وهذا الفصل يجد تبريره في كون "الحق" أو "الحقيقة" مستقلاً عن عدد الأشخاص الذين يوافقون أو يرفضون. فـ"الحق" يلتمسه القاضي النزيه الكفء المجتهد، من ضميره بعد الاطلاع على ملف القضية المعروضة عليه والاستعانة بالشهود. وكذلك الشأن في "الحقيقة العلمية" فهي لا تتقرر بعدد من يوافقون أو يعترضون بل يلتمسها الباحث العالم من دراسة الظاهرة دراسة شمولية بقدر الإمكان، واستخلاص النتيجة والتحقق من صحة أو عدم صحة هذه النتيجة بإجراء ما يناسبها من التجارب.

وهكذا يتضح أن "السلطة القضائية" لا يمكن أن تكون عادلة إلا إذا كانت مستقلة مفصولة عن تأثير وتوجيه السلطتين الأخريين، التنفيذية والتشريعية، وأعلى منهما، بمعنى أن كلا منهما يخضع، سواء كشخصية معنوية أو كأفراد، لحكمها عندما يتعلق الأمر بمنازعات... الخ. نعم يتم تعيين رجال السلطة القضائية من طرف الحكومة الديمقراطية أو من طرف السلطة التشريعية (التمثيلية)، ولكن بمجرد ما تتم عملية التعيين -حسب قوانين تشريعية- ملزمة، تستقل السلطة القضائية بنفسها وبموضوعاتها، ويصبح كل تدخل من هاتين السلطتين في اختصاصات السلطة القضائية نوعاً آخر من الانقلاب على الديمقراطية.

ولننظر الآن على ضوء هذه المعطيات إلى الوقائع التي عرفتها الأسابيع الثلاثة الماضية والتي أشرنا إليها أعلاه، ولنبدأ بالواقعة الأولى.

- في التاسع والعشرين من الشهر الماضي (نوفمبر2009) أجرت الحكومة السويسرية استفتاء حول منع المآذن في بلادها، وقد صوت لفائدة المنع 57.5 في المئة من الناخبين. لقد أثار هذا الاستفتاء ضجة واسعة في سويسرا نفسها وفي أوروبا (خاصة فرنسا) وبقية العالم، وخصوصاً العالم العربي والإسلامي... الخ. أما أن يكون هذا الاستفتاء الذي اقترحه اليمين المتطرف في سويسرا ذا بعد سياسي، فهذا ما لا يحتاج إلى كثير بيان: فهناك من جهة الانتخابات التي اقترب موعدها هناك، ثم هناك تطرف ذلك اليمين ذي النزعة الشوفينية، الذي يزعجه النمو المتسارع لعدد المسلمين هناك (من 17 ألفاً سنة 1970 إلى 300 ألف سنة 2000، وهم أتراك، وبوسنيون، وعرب... الخ). أضف إلى ذلك النزعة المعادية، أو المتخوفة من الإسلام التي انتشرت هي الأخرى بسرعة بعد أحداث سبتمبر 2001. ومع ذلك كله فإن العلاقة بين المسلمين السويسريين وغير المسلمين بقيت تمتاز بسيادة التعايش السلمي الذي يتجسّم في "الاندماج" في هذا البلد العلماني الذي تكيف فيه المسلمون مع مبادئ العلمانية دون أن يفقدوا هويتهم الدينية ولا الانغلاق فيها. أما المآذن التي جعل منها اليمين المتطرف قضيته "الوطنية" الشوفينية فعددها في سويسرا لا يتجاوز أربع مآذن، وليس فيها ما يزعج الأسماع، أما منظرها كأسطوانات عالية نسبياً، وعليها الهلال، فقد يزعج أبصار الذين ما زالوا يربطون بين الهلال وزحف الإمبراطورية العثمانية على أوروبا في وقت من الأوقات؛ إضافة إلى ما حدث في العالم كله من ردود فعل سلبية إزاء أحداث سبتمبر الرهيبة.

ويتبين من هذه المعطيات أنه ليس ثمة ما يبرر ديمقراطياً، طرح قانون للاستفتاء يمنع بموجبه بناء مآذن. إن المنهجية الديمقراطية تقتضي أنه لو فرضنا أن المآذن الأربع الموجودة في سويسرا تسبب إزعاجاً للناس الذين يسكنون في جوارها -كما هو الحال لمن يشتكي من مكبرات الصوت فيها في بعض المدن العربية- أقول إن المنهجية الديمقراطية تقتضي في هذه الحالة أن يلجأ "المزعَجون"، بوصفهم متضررين، إلى السلطة القضائية، فهي المخولة حسب جميع الدساتير الديمقراطية في المنازعات ورفع الضرر وإرجاع الحقوق إلى أصحابها ورفع الظلم عن من يعاني منه. أما اللجوء إلى الاستفتاء للتصويت على منع إقامة رموز دينية محايدة لا ضرر فيها على أحد فهذا إجراء يمس مساً خطيراً حقاً دستورياً تكفله الديمقراطية، وهو حرية التدين وإقامة الشعائر الدينية.

ومن هنا كان اللجوء إلى الاستفتاء، أي إلى الديمقراطية المباشرة، بدل الاحتكام إلى السلطة القضائية، قلباً للديمقراطية وانقلاباً عليها... والذين قاموا بهذا الانقلاب على الديمقراطية، بوصفها تقوم على الفصل بين السلطات، إنما فعلوا ذلك لأن مرجعية السلطة القضائية هي العقل، هي الاجتهاد والحياد والنزاهة والتجرد عن الهوى، بينما مرجعية الاستفتاء هي "العدد" عدد الأصوات التي توجهها الدعاية المهيجة للعواطف السلبية والديماغوجية المضللة للبصر والبصيرة....

ليست هناك تعليقات: