" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الثلاثاء، مايو 25، 2010

أضواء علي مشروع الجزيرة .. التطورات، والمتغيرات و قانون 2005م

تقديم الخبير في البنك الدولي: الدكتور سلمان محمد احمد سلمان

عرض صديق عبد الهادي

الجزء الأول

كجزءٍ من المساهمة في بلورة دورٍ جديد للمهاجرين السودانيين، درج المكتب الثقافي للجالية الأمريكية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، و هي واحدة من أنشط الجاليات في الولايات المتحدة الأمريكية ، علي إقامة نشاطات ثقافية متميزة ، احتلت فيها القضايا المتعلقة بالوطن ـ السودان ـ و بهموم شعبه حيزاً براحاً.
مما لا خلاف حوله أن المهاجرين السودانيين في كل أنحاء العالم أصبحوا يحتاجون اليوم ،أكثر من أي وقتٍ مضى، لان يكونوا أكثر ارتباطاً بالوطن الأم و بقضاياه بعد أن أضحى العالم ، فعلاً و ليس مجازاً، قرية واحدة، قد لا تكون مترامية الأطراف ، و لكنها في الوقت نفسه ليست صغيرة إلي ذلك الحد الذي أمست تتبدى فيه لمنْ جاشت بأنفسهم بدائع ثورة المعلومات.
ضمن ذلك النشاط الدؤوب قدم المكتب الثقافي للجالية الأمريكية السودانية في يوم 10 مايو 2008م ، الخبير السوداني في البنك الدولي الدكتور سلمان محمد احمد سلمان في ندوة عن مشروع الجزيرة في السودان. و ذلك ما نحاول أن نعرض له في هذه المقالات.
مقدمــة
من ضمن الأسباب التي عنت بوجوب عرض هذه الندوة علي اكبر عدد من القراء في السودان و خارجه هو أن أهمية موضوع مشروع الجزيرة في السودان أصبحت لا تأتي من تاريخه آو سنواته الثمانيين التي سلفت ، و إنما هي تأتي من مستقبله. فالسودان اليوم يمر بأدق مراحل تاريخه ليس علي المستوى السياسي، كما يفهم الكثيرون، و إنما علي المستوى الاقتصادي أكثر تحديداً، حيث أن قضايا الثروة و توزيعها ، و قد يكون لأول مرة في تاريخه الحديث، قُدِر لها أن تكون محل تركيز و اهتمام ، بل أن ضرورة معالجتها العادلة و السليمة أصبحت تشكل، و بإجماع السودانيين، الضمان الأساس لوقف النزيف و قيام السلام و الوحدة.
أما السبب الآخر هو أن الدكتور سلمان محمد احمد سلمان فوق تخصصه النادر في قانون المياه علي مستوى العالم و تمثيله للبنك الدولي في هذا المجال ، فإنه خبير مشهودٌ له بالتزام الرصانة البحثية و محفوظٌ له مثابرته علي مراصفة التجويد، و في هذا الصدد سيجد القاري أن وقائع هذه الندوة لا تحيد عن ذلك التأكيد .
في الدائم الأعم ، أن القارئ يسعى، بل و يتوق أحيانا أكثر من الباحث نفسه، إلي التأكد من أن المعلومة ليست هي المحجة و المقصد في ذاتها و إنما تحليلها و ربطها بظرفها و علاقتها بوقائع الحالة في شمولها هو في نهاية المطاف مما يساعد علي التصدي و المواجهة المسئولة للقضايا الشائكة، و ذلك ما هو مطلوبٌ في معالجة وضع كالذي في مشروع الجزيرة. هذا ما حاول أن يقوله الدكتور سلمان ، و كذلك أيضا ما حاول أن يؤكد به موقفه الثابت من احترام الاختلاف المبني علي المعرفة. و هذا موقف يجد كل التقدير ، بل و هو في جوهره مبتغى كل عارف.
وقائع الندوة:
السؤالان المدخل
طرح د. سلمان سؤالين كمدخلٍ لمحاضرته ،الأول ، ما هي علاقة المتحدث بمشروع الجزيرة و ما هي المقومات و الأرضية التي ارتكز عليها في تقديمه لهذه الندوة عن المشروع؟ .
أما السؤال الثاني فهو لم كل هذا الاهتمام الكبير و المفاجئ من قبل السياسيين، حكومة و معارضة، أكاديميين، منظمات مجتمع مدني، و بل كافة قطاعات الشعب السوداني بمشروع الجزيرة؟!!!.
يشير د. سلمان في إجابته عن السؤال الأول إلي أنه و بسبب تفاقم مشاكل مشروع الجزيرة بدءاً من منتصف السبعينات في القرن المنصرم لجأت الحكومات المتعاقبة إلي تكوين لجان و كذلك إلي الاستعانة بالمنظمات الدولية للنظر في أمر المشروع و مشاكله، و من ثم تقديم توصيات لعلاج تلك المشاكل. فعند هذه النقطة، و كما أشار، جاءت علاقته هو بالمشروع، و ذلك بحكم عمله في البنك الدولي.
تناول بشكلٍ خاص اللجنة التي كونت في بداية عام 1998م و قدمت تقريرها في نوفمبر عام 1998م.حيث ذكر بان أهم توصياتها هي ، أولا قيام شركة مساهمة تؤول إليها ملكية مشروع الجزيرة بحيث تكون الأصول المملوكة حالياً للدولة أسهما لها، و يُطلب من القطاع الخاص و المصارف التجارية و الزراع و العاملين بالمشروع و المواطنين الراغبين المساهمة في هذه الشركة. و يمكن للحكومة أن تبيع أسهمها في هذه الشركة إن أرادت.
ثانياً أوصت اللجنة بان توقع الشركة عقوداً لعلاقات الإنتاج مع جميع الزراع سنوياً.
ترددت الحكومة في قبول هذه التوصيات ، و اتصلت في عام 1999م بالبنك الدولي ـ الحديث هنا للدكتور سلمان ـ و طلبت من البنك دراسة مشاكل المشروع ، و تقديم توصيات لحلها مع النظر في مقترحات و توصيات لجنة عام 1998م. لابد هنا من الإشارة إلي حقيقة أن علاقة البنك و حكومة السودان كان أن وصلت إلي طريق مسدود في العام 1993م ، و ذلك بسبب توقف حكومة السودان عن سدادها للقروض المستحقة عليها للبنك الدولي. و قد قام البنك بالفعل في ذلك العام بإلغاء المشاريع التي كان يقوم بتمويلها في السودان، و كذلك قام بإغلاق مكتبه في الخرطوم.
برغمه وافق البنك علي الطلب و تم تكوين فريق عمل مشترك بينه و حكومة السودان. ضمّ الفريق إلي جانب ممثلي البنك متخصصين من السودانيين في مجالات الزراعة، الري، و الاقتصاد من خارج الحكومة. و قد اصدر الفريق تقريره في أكتوبر 2000م تحت عنوان " السودان: خيارات التنمية المستدامة في مشروع الجزيرة".
في أوائل عام 2002م طلبت حكومة السودان من البنك الدولي المساهمة في مناقشة و تطبيق مقترحات التقرير الذي قٌدِم إليها في العام 2000م. طُلِب من د. سلمان الالتحاق بفريق عمل البنك الدولي لتقديم المشورة و العون في المقترحات الخاصة بإدارة الموارد المائية في مشروع الجزيرة و ذلك بوصفه المستشار القانوني لشئون المياه في البنك الدولي. و كان أن أصبح واحداً من أعضاء ذلك الفريق بالفعل. أشار د. سلمان إلي حقيقة انه قام و خلال الخمسة أعوام الماضية ، بزيارة مشروع الجزيرة سبع مرات، و طاف علي عدد كبير من أقسامه و التقى بعددٍ كبيرٍ من المزارعين و الموظفين و اتحاد المزارعين و كذلك بإدارة المشروع. ذلك العمل أتاح له فرصة التعرف بشكلٍ أدق و عميق علي مشاكل المشروع و معوقات إنتاجه، علي حسب ما ذكر، بل انه قال بان تلك المهمة التي قام بها ستظل من أكثر المهام التي قام بها خلال فترة عمله المديدة بالبنك، أهمية. فتلك كانت هي ركيزة علاقته بمشروع الجزيرة و ركيزة استقائه المعلومات مما مكنه من الحديث عن المشروع.
يُلاحظ دائماً أن د.سلمان ، وفي كل ندواته، يكون حريصاً علي تأكيد أن الآراء و الأفكار التي ترد منه لا تمثل و بأي حال من الأحوال و لا تعبر عن آراء البنك الدولي آو أراء و أفكار أي فريق يعمل من ضمنه.، و إنما هي بالضرورة أفكاره الخاصة. وهذه بحق فضيلة علمية رفيعة لا يتمسك بها إلا منْ عمر وجدانهم بالشجاعة المهنية. لأنه، و كما هو معلوم، ليس هناك من مأمنٍ اضمن لاتقاء سهام النقد من الاستجارة بظل الغير!!!.
وفي إجابته عن السؤال الثاني، يرى د. سلمان أن ذلك الاهتمام المتزايد الحالي بمشروع الجزيرة مرده إلي أزمة الغذاء الحادة التي تنتظم العالم اليوم، و التي تهدد الكثير من دوله. و قد تجلت تلك الأزمة في عدة مظاهر، منها:
(*) الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الغذائية الأساسية في العالم.
(*) التخوف الذي أبدته معظم الدول من المشاكل المصاحبة لهذا الارتفاع مما حدى بها إلي اتخاذ إجراءات تحد من تصدير المواد الغذائية خارج حدودها.
(*) تسبب أعلاه في قلة العرض مما أدى و يؤدي بالنتيجة إلي ارتفاع الأسعار. و بالطبع كان للسودان نصيبه في ذلك.
من جانبٍ آخر كانت هناك أسباب وراء تلك الأزمة الغذائية التي تجلت مظاهرها فيما سبق ذكره. و يمكن إجمال تلك الأسباب فيما يلي /
أولا/ الازدياد المطرد لسكان العالم. في عام 1900م كان عدد سكان العالم 1,6 مليار، أي اقل من مليارين من البشر. وصل إلي 6,1 مليار في العام 2000م، و من المتوقع أن يصل عدد سكان المعمورة إلي 9 مليارات بحلول 2050م. لابد من القول بأنه و بالنتيجة زادت كذلك الهجرة من الريف إلي المدينة.
شهدت الطبقة الوسطى توسعاً عددياً في أكثر دولتين كثافة في العالم، و هما الهند و الصين، و قد زادت كذلك القوة الشرائية لتلك الطبقة أيضا.
فيما يخص الهجرة من الريف إلي المدينة نرى أن تلك الظاهرة أصبحت أكثر وضوحاً في السودان حيث أصبحت المدن و خاصة الخرطوم مراكزاً لاستقبال تلك الهجرة ـ الكثافة السكانية فيها تقارب 10 مليون نسمة ـ ، فذلك يعني فيما يعني الهجرة من الذرة إلي القمح استعمالاً . و معلومٌ أن السودان يستورد 60% من احتياجاته في القمح من الخارج!!!.
و توضح الإحصائيات و المعلومات المتوفرة أن عائدات الإنتاج بالنسبة لأكثر الحبوب أهمية علي مستوى البلدان النامية في العالم قد شهدت تناقصاً كبيراً. و تلك المحاصيل هي القمح، الذرة الشامي و الأرز. مثلاً بالنسبة للقمح فقد تناقص معدل النمو السنوي في إنتاجه بين عامي 1961م و 2000م من 10, 25% تقريباً إلي 1% تقريباً!!!. فهذه إحصائيات تقف دليلاً علي ما ذكرنا أعلاه، فإنها بالقطع تعني الكثير بالنسبة للمهتمين بأمر الغذاء في العالم.
ثانياً/ المتغيرات المناخية ، و خاصةً الاحتباس الحراري فقد اثر سلباً علي الإنتاج الزراعي في أقطار كثيرة من العالم و كمثال علي ذلك أن استراليا قد توقفت عن زراعة الأرز و قللت كثيراً من زراعة القمح بسبب الجفاف. تقول الإحصائيات أن صافي عائد إنتاج الفدان من الأرز يعادل حوالي 240 دولاراً في حين أن صافي العائد بالنسبة لنفس الفدان من العنب يعادل 1680 دولاراً. بالتأكيد إذا ما كنا نعلم أن الأرقام لا تكذب، فان خيار المزارعين الاستراليين سيكون واضحاً وهو التقليل من زراعة أي محصولٍ آخر عدا العنب.
ثالثاً/ اثر استعمال الحبوب خاصة الذرة الشامي في إنتاج الوقود الحيوي سلباً علي المساحات المزروعة بغرض إنتاج الحبوب لأجل الغذاء و ذلك بالضغط عليها و تقليل مساحتها، مما أدى إلي وصف إنتاج الوقود الحيوي بأنه "جريمة ضد الإنسانية"!!!.
رابعاً/ ارتفاع أسعار المحروقات انعكس في زيادة أسعار المدخلات الزراعية ، مما أدى إلي ارتفاع تكاليف الإنتاج.
خامساً/ ضعف الدولار و انخفاضه اثر في ارتفاع الأسعار ـ لاحظ ارتفاع سعر البترول ـ حيث وصل سعر البرميل إلي 130 دولار و هو ضعف سعر البرميل في نفس الوقت من العام الماضي مثلاً.
سادساً/ المضاربات المستقبلية بأسواق السلع ، و قد شمل ذلك القمح و الأرز.
سابعاً/ إجراءات الحد من تصدير المواد الغذائية بواسطة بعض الدول أدى إلي شحها و من ثمّ إلي ارتفاع أسعارها في كثير من دول العالم مما تسبب في الكثير من الاضطرابات و الاحتجاجات الدامية في عدد من الدول مثل هاييتي، مصر، بوركينا فاسو و غيرها.
ثامناً/ الدعم الذي تقدمه الدول الصناعية الكبرى لمزارعيها افقد المزارعين في البلدان الأخرى القدرة علي المنافسة، و قد اثر ذلك سلباً علي الإنتاج في تلك الدول. و
تاسعاً/ تدني الاستثمارات العالمية في القطاع الزراعي و إحجام القطاع الخاص عن الاستثمار فيه بسبب المخاطر المتوقعة، حيث هبط من 1,9 مليار دولار في عام 1981م إلي اقل من مليار دولار في عام 2001م.
تلك هي الأسباب التي أنتجت الأزمة الغذائية علي مستوى العالم، و التي انعكست بشكلٍ واضح في عدم مقدرة الناس، في كثير من بلدان العالم ، علي شراء المواد الأساسية حيث ارتفعت أسعار الحبوب و خاصة الضرورية منها كالأرز، القمح و الذرة الشامي بنسبة تراوحت بين 50% و 300% في الفترة من يناير 2007م و حتى مايو من العام الجاري 2008م فقط.
علي أية حال، لابد لنا من إضاءة بعض الحقائق علي المستوى الإقليمي لان ذلك سيساعد كثيراً في الاقتراب من الموضوع الذي نحن بصدده. من تلك الحقائق أن العالم العربي يستورد 76% من المواد الغذائية التي يستهلكها من الخارج، و في سبيل توفير ذلك يتم صرف حوالي 40 مليار دولار سنوياً، أي حوالي 3,5 مليار شهرياً بواقع 120 مليون دولار يومياً!!!.
و من تلك الحقائق أيضا أن مصر تستهلك حوالي 14 مليون طناً من القمح سنوياً، تستورد منها ما يعادل 7 مليون طن من الخارج. و كذلك السودان يدور في نفس الرحى إذ يستهلك مليونين طن من القمح و يستورد منها 1,3 مليون طن من الخارج.
الآن يمكن تصور الوضع الإقليمي ـ علي الأقل في الوطن العربي ـ حين يتم ربط هذه الحقائق بحقيقة أن 60% من المياه الجارية في الوطن العربي تأتي إليه من خارج حدوده. فذلك وضعٌ معقد، علي إثره استيقظ العالم العربي علي أهمية مسألة "الأمن الغذائي" و من ثم أدرك أهمية و إمكانيات السودان الزراعية.
الناس في السودان ليسوا بمعزلٍ عن ذلك أو عما يجرى علي صعيد العالم، فقد كان لابد لهم أيضا من التأمل ، و من نفس النافذة التي اطل منها العالم، في مسألة " الأمن الغذائي"، و من ثم إلقاء نظرة متأنية علي القطاع الزراعي و الذي يمثل مشروع الجزيرة مركز الثقل فيه، حيث انه الأكبر مساحةً و الأقدم عمراً، و الذي قد يكون و بمعايير مختلفة الأوفر حظاً في تخفيف ذلك الهاجس المتعلق بمسالة "الأمن الغذائي" ، اقله علي مستوى الوطن.
الجــــــــــزء الثــــــاني
خلفية المشــــــروع
معلومٌ أن الحديث عن مشروع الجزيرة قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمسالة زراعة القطن في السودان. أصبح من غير الممكن التفكير في مشروع الجزيرة دون ربطه بالقطن، و لقد لعبت عوامل كثيرة دوراً في ترسيخ ذلك الربط سواءً إن كانت سياسة الدولة، أو سائل الإعلام بكل أشكالها، أو المناهج التعليمية في المراحل المختلفة، حيث كان الضوء مسلطاً علي مشروع الجزيرة و إنتاجه للقطن و آثار ذلك علي الخزينة و الدخل القومي و من ثمّ علي التنمية في السودان بشكلٍ عام.
هنالك عوامل تاريخية لا يستقيم بدونها الحديث عن مشروع الجزيرة و مسألة زراعة القطن فيه. إن الانبهار بذلك النجاح الساطع الذي حققه مشروع الجزيرة في تبني زراعة القطن خلال زمن طويل من تاريخه ، لا يرجع فقط إلي الإنتاجية العالية التي حققها المشروع في ذلك المحصول خلال جزءٍ كبير من عمره، و إنما يرجع أيضا و تاريخياً إلي فشل التجارب السابقة لمحاولة زراعة القطن في مناطق مختلفة من السودان، و في عهود تاريخية مختلفة كذلك. فمثلاً، في ستينيات القرن التاسع عشر و إبان الحكم التركي فشلت محاولة ممتاز باشا لزراعة القطن في دلتا القاش و طوكر، و ذلك لأسباب تتعلق بالتربة و المياه و المناخ و الأمن في تلك المنطقة. ولبعض الأسباب المشتركة مع تجربة ممتاز باشا ـ التربة و المناخ ـ فشلت أيضا تجربة المستثمر الأمريكي " لي هنت" في منطقة الزيداب في عامي 1906م و 1907م.
و للمرة الثانية، أيضا، فشلت التجربة في دلتا القاش و طوكر ، و التي قامت بها شركة كسلا الزراعية أثناء الحكم الثنائي و لنفس الأسباب التي أدت لفشل تجربة ممتاز باشا.
في العام 1911م اتجهت أنظار إدارة الحكم الثنائي نحو الجزيرة . بدأت بالفعل التجربة بواسطة شركة السودان الزراعية ، و ذلك بزراعة 250 فدان في منطقة طيبة لتروى بالري الصناعي عن طريق الطلمبات. أدى نجاح هذه التجربة إلي زيادة تدريجية في الرقعة الممنوحة من الأرض لشركة السودان الزراعية.
تضافرت عوامل كثيرة في نجاح التجربة و من ثم ميلاد و تطور مشروع الجزيرة. و يمكن تلخيص هذه العوامل في الآتي /
أولا/ خصوبة التربة، أوضحت أنه لن يكن هناك احتياج كبير للسماد و للمخصبات.
ثانياً/ طبيعة التربة و تماسكها قلل من تسرب المياه و ساعد علي بقائها لري القطن.
ثالثاً/ القرب من النيلين ـ الأزرق و الأبيض ـ ساعد وأدى إلي بناء السدود و زيادة و تنظيم عملية الري.
رابعاً/ طبيعة الأرض المنبسطة ساعدت ، و هذه من أهم الأسباب، علي الري الانسيابي الطبيعي. و قد أدى ذلك ، بالطبع ، إلي تقليل تكلفة الإنتاج مقارنةً بالري الصناعي.
خامساً/ العامل المناخي حيث ساعد فصل الصيف بحرارته العالية جداً و جفافه علي القضاء علي كثير من الآفات و الحشرات في المشروع و قلل بذلك من الاعتماد علي المبيدات.
سادساً/ الكثافة السكانية في منطقة الجزيرة كانت معقولة، ثم أنه كانت لهم خبرة حيث مارس معظمهم الزراعة المطرية.
سابعاً/ موقع الجزيرة في وسط السودان سهّل من هجرة مزارعين آخرين و كذلك عمال موسميين. كما و انه سهّل الوصول إليها من الخرطوم، و نقل القطن منها إلي الخرطوم و من ثم إلي بورتسودان و منها بحراً إلي مصانع الغزل و النسيج في لانكشير ببريطانيا و التي كانت تنتظر بفارغ صبرٍ و نهمٍ شديد إلي نجاح تجربة مشروع الجزيرة.
واضحٌ انه و مما لاشك فيه أن وجود عوامل كهذه لا يمكن أن تؤدي إلا لاختيارٍ أمثل ، و بالفعل كان اختيار منطقة الجزيرة لإجراء التجربة، ومن ثمّ لقيام المشروع، اختياراً موفقاً.
التطورات التي لازمت قيام المشروع
بعد موسمين من بدأ تجربة طيبة في العام 1911م، بدأت الإدارة البريطانية في السودان في الاقتناع بنجاح تجربة زراعة القطن في منطقة الجزيرة. و شرعت الإدارة في التفاوض مع لندن و القاهرة لأجل إكمال إنشاء المشروع. تركز التفاوض علي نقطتين أساسيتين /
الأولى / التفاوض مع لندن علي ضرورة الحصول علي قرض وذلك لبناء خزان سنار لأجل ري المشروع ومن ثمّ التوسع فيه.
الثانية/ التفاوض مع القاهرة لأجل تأمين موافقتها علي كمية المياه التي يمكن استعمالها لري المشروع من خزان سنار علي النيل الأزرق.
فيما يخص النقطة الأولى وافقت لندن و بعد مفاوضات طويلة علي منح الخرطوم قرضاً بمبلغ ثلاثة مليون جنيه إسترليني و هي تكلفة بناء الخزان، إلا أن الحرب العالمية الأولى أوقفت التحضيرات لبنائه، و لم يبدأ العمل فيه إلا بعد انتهائها. اكتمل العمل في الخزان في العام 1925م، و هو التاريخ الرسمي لبداية مشروع الجزيرة.
أما فيما يخص النقطة الثانية فقد وافقت مصر علي بدء العمل في مشروع الجزيرة و بناء خزان سنار شريطة ألا تتجاوز مساحة الأرض المروية 300,000 فدان (ثلاثمائة ألف فدان). و كُفل لمصر الحق في بناء خزان جبل أولياء. و هنا يبقى من الضروري الإشارة إلي، و كذلك تسجيل الملاحظة الهامة ، أن بدء الري في مشروع الجزيرة و كذلك كل أطوار التوسع في الرقعة المروية فيه اعتمدت اعتماداً كاملاً علي موافقة مصر بسبب أن مياه الري تسحب بكاملها من النيل الأزرق.
التزمت إدارة الحكم الثنائي بهذه المساحة حتى عام 1929م عندما تم توقيع اتفاقية مياه النيل لعام 1929م و التي حددت حصة السودان في مياه النيل بـ 1,3 مليار متر مكعب، ارتفعت فيما بعد لتصل إلي 4 مليار متر مكعب، مقابل 24 مليار متر مكعب لصالح مصر، ارتفعت فيما بعد لتصل إلي 48 مليار متر مكعب. و نتيجةً لذلك بدأت الإدارة البريطانية التوسع في المساحة المروية في مشروع الجزيرة. و قد تدرج التوسع خلال المراحل التالية/
1- في العام 1926م كانت المساحة 300,000 فدان،
2- في العام 1929م وصلت المساحة إلي 379,000 فدان،
3- في العام 1931م وصلت المساحة إلي 527,000 فدان،
4- في العام 1953م كان أن وصلت إلي مليون فدان.

إثر توقيع اتفاقية مياه النيل بين مصر و السودان في العام 1959م ارتفعت حصة السودان إلي 18,5 مليار متر مكعب مقبل 55,5 مليار متر مكعب لصالح مصر. أدى ذلك الوضع إلي بناء خزان الروصيرص الذي اكتم2008م، فيه في العام 1964م، و من ثمّ بدأ التوسع في مشروع الجزيرة ليشمل امتداد المناقل و لتصل بذلك مساحة المشروع إلي 1,800,000 فدان في العام 1966م. استمرت المساحة في التوسع حيث وصلت الآن، العام 2008م ، إلي 2,200,000 فدان.
يُلاحظ انه خلال أربعين عاماً أي من 1926م و حتى 1966م كان أن زادت مساحة المشروع بما يعادل مليون و نصف فدان في حين أنها لم تزد في الأربعين سنة الماضية سوى بأربعمائة ألف فدان فقط، أي بأقل من نصف المليون فدان.
من أهم التطورات التاريخية و التي انبنت عليها تحولات ضخمة في مسار المشروع ما حدث في العام 1950م ، حيث انتهى العقد الموقع بين حكومة الحكم الثنائي و شركة السودان الزراعية التي كانت تدير المشروع. و قد حلّ محل الشركة "مجلس إدارة مشروع الجزيرة"، و المكون معظمه من سودانيين. ذلك كان هو الوقت الذي صدر فيه قانون مشروع الجزيرة للعام 1950م.
في الفترة من 1950م و حتى 1955م أدار المشروع كل من البريطانيين "آرثر جيتسكل" و "جورج ريبي" ، حيث كانت فترة الأول من 1950م إلي 1953م، و الآخر من 1953م إلي 1955م. و لقد كان السيد مكي عباس أول محافظ سوداني لمشروع الجزيرة، و بلغة الأدب السياسي فيما بعد الاستقلال كان هو أول من بدأت به سودنة الإدارة العليا في مشروع الجزيرة.
هنالك محاور أخرى يمكن تلمسها في مسار التطورات التي حدثت في مشروع الجزيرة. و هذه المحاور تتلخص في الآتي/
المحور الأول، علاقات الإنتاج/
ارتكزت فكرة مشروع الجزيرة علي علاقةٍ و شراكةٍ ثلاثية بين الحكومة، الشركة و الزراع، و ذلك باعتبار الآتي،
• الحكومة هي التي تملك السد و القنوات و الأراضي ( يأتي موضوع بحث ملكية الأراضي لاحقاً).
• الشركة هي التي تقوم بإدارة المشروع و أيضا التمويل ـ بالطبع للقطن فقط و لا يشمل أي محصول آخر ـ، و تشرف كذلك علي إنتاج القطن.
• و أخيرا، الزراع و هم الذين يقومون بزراعة القطن في الحواشات تحت إشراف الشركة.
و تجدر الإشارة إلي انه من المسائل، ذات الطابع المعقد، التي واجهت الحكومة و الشركة هي محاولة تحديد اسم لهؤلاء الزراع. و قد ذهب التفكير فيها مناحي مختلفة ، أولا ، هؤلاء الزراع لا يملكون الأرض ، و ليست لديهم حرية القرار فيما يزرعون و لا حرية تمويله أو حتى تسويقه، فلذلك لا يمكن تسميتهم "مزارعين". ثانياً، برزت فكرة تسميتهم "شركاء" ، إلا أن النظر صُرف عن ذلك الاسم لان طريقة تقسيم الأرباح التي كانت تُطبق لم تكن تعكس الفكرة الحقيقة للشراكة، لان الأرباح كانت توزع بعد خصم تكلفة الإنتاج من الزراع. ثالثاً، تناولت بعض المكاتبات إمكانية تسميتهم بـ "عمال زراعيين" ولكنه لم يتم اعتبار هذا الاسم لان العامل يستحق "أجرا ثابتاً" أو التزاماً باجر من مستخدمه نظير عمل محدد و ليس جزءاً من الأرباح كما هو مُطبق وقت قيام المشروع، حيث كانت الأرباح توزع علي أساس النسب. و لقد كانت تلك النسب توزع كالآتي/
الحكومة نصيبها 40%، الزراع نصيبهم 40% ، و الشركة الزراعية نصيبها 20%. ظلت تلك النسب سارية من العام 1925م و حتى العام 1950م و هو العام الذي انتهى فيه العقد مع الشركة السودانية للزراعة. و تمّ فيه تعديلُ هذه النسب.
و أخيراً استقر الرأي علي تسمية هؤلاء الزراع "مستأجرين" . و هي تسمية، برغم استقرار الرأي عليها،فإنها ليست دقيقة، لان المستأجرين أنفسهم، وكما هو معلومٌ، لديهم شيء من الحرية في شأن الأرض التي يستأجرونها ، علي الأقل في كيفية استخدامها، إلا أن الزراع في مشروع الجزيرة لا يتمتعون بأي قدر من هذا القبيل.
أما التعديل المشار إليه أعلاه فقد رفع نسبة أرباح الزراع إلي 42% و الحكومة إلي 42% و حدد نسبة أرباح إدارة مشروع الجزيرة بـ 10%. كما أضاف البنود التالية وهي الخدمات الاجتماعية و المجالس المحلية و صندوق الاحتياطي و حدد نسبة 2% لكل منها. و في العام 1965م و تقديراً لدور المزارعين في ثورة أكتوبر تمّ رفع نسبة أرباحهم إلي 48% و خُفضت نسبة أرباح الحكومة إلي 36%.
و في العام 1981م تم استبدال الحساب المشترك ( و الذي يتم بمقتضاه خصم التكلفة الإجمالية لكل الزراع من العائد الإجمالي لمحصول القطن و توزيع الباقي علي الزراع) بالحساب الفردي (و الذي يتحمل فيه كل زارع تكلفة إنتاج قطنه منفرداً). و تبع هذا التغيير إدخال نظام الرسوم الإدارية و التي يدفع بمقتضاها كل زارع رسوم الأراضي و المياه. و هذا تحولٌ أثار الكثير من الجدل.
و لابد من ملاحظة أن نظام توزيع الأرباح بعد خصم كافة تكاليف الإنتاج ينقصه العدل تجاه المزارعين، خاصة في السنوات التي تدنى فيها إنتاج القطن كما حدث ذلك في الثلاثينيات من القرن الماضي. و لمعالجة هذا الوضع كان أن سُمح للمزارعين بزراعة 5 أفدنة من الذرة و 5 أخرى من اللوبيا وذلك لاستخدامهم الخاص دون شراكة مع الحكومة أو الشركة الزراعية و إدارة المشروع لاحقاً.
إن اتفاقية الإيجارة التي أقرت الشراكة مبدأً قد أعطت الشركة الزراعية الحق في أن تقوم بأي دورٍ للمستأجر حال فشله القيام به علي أن تخصم التكاليف المترتبة علي ذلك من أرباح المستأجر.
و يلاحظ كذلك أن التركيبة المحصولية للدورة الزراعية في المشروع قد شهدت هي الأخرى تغييرات مختلفة قبل أن تستقر في الفترة بين تسعينيات القرن الماضي و حتى العام 2005م علي زراعة (1) القطن، (2) القمح، (3) الفول السوداني و الخضروات، (4) الذرة، و (5) البور .
المحور الثاني، الأراضي/
بعد أن استقرت الأمور لإدارة الحكم الثنائي ، بدأت في تسوية و تسجيل الأراضي التي استطاع مستعملوها إثبات ملكيتها. وجدت الإدارة أن جزءاً من الأراضي التي سيقوم عليها مشروع الجزيرة هي ملك حر لبعض الأفراد. و بناءاً عليه و بعد عدة مداولات قررت الإدارة ألا تنزع هذه الأراضي من أصحابها للصالح العام و تعوضهم كما يقر القانون. جاء القرار بشكله ذلك لعدة أسباب ، منها ،
أولا/ الخوف أن يؤدي نزع هذه الأراضي إلي اضطرابات وثورات.
ثانياً/ الخوف إلا تنجح زراعة القطن، و التي هي الأساس الذي قام عليه المشروع،
و ثالثاً/ التكلفة العالية للتعويضات التي كانت ستدفع لملاك الأراضي في حالة نزع هذه الأراضي.
و قد كان أن نزعت الحكومة بعض الأراضي لإقامة المباني و القنوات و قامت بدفع تعويض و قدره جنيهاً واحداً عن كل فدان.
لهذه الأسباب تقرر أن يتم تأجير الأراضي الملك الحر من ملاكها إيجارا قسرياً بواقع عشرة قروش ـ أي ريال ـ للفدان في العام الواحد. و من ثمّ تضاف تلك الأراضي إلي الأراضي الحكومية، علي أن يتم تأجير هذه الأراضي كلها في شكل حواشات للمزارعين حتى ولو كانوا ملاكاً.
علي إثر ذلك صدر قانون "أراضي الجزيرة" لعام 1927م لأجل تقنين و تنظيم إيجار الأراضي الملك الحر للحكومة و لمدة 40 عاماً، انتهت في العام 1967م. وهو العام الذي طالب فيه بعض الملاك ـ هم وراث في غالبيتهم ـ بإعادة أراضيهم إليهم، في حين طالب آخرون منهم بزيادة الإيجار ليواكب الأسعار وقتها. كونت لجنة لهذا الغرض، إلا أنها لم تصدر تقريرها حتى قيام انقلاب 25 مايو 1969م. و منذ ذلك التاريخ ظلّ موضوع "أراضي الجزيرة الملك الحر"، و هي 900 ألف فدان، موضوعاً تتناقله أيدي اللجان حتى يومنا هذا. و من أميز اللجان التي تناولته هي اللجنة التي ترأسها المستشار القانوني الأستاذ عبد الله احمد مهدي و التي أصدرت تقريرها عام 2003م. و يمتاز هذا التقرير بالدقة و العمق في تحليل مسألة الأراضي هذه.
رفض الملاك استلام أل 10 قروش منذ العام 1972م مطالبين بتعديلها إلي ما يعادل القيمة الحقيقية للـ 10 قروش في العام 1927م. فبرغم تكوينهم لجمعيتهم المعروفة بـ "جمعية ملاك مشروع الجزيرة"، و تمثيلهم في عدة لجان ، بل و برغم صدور قانون 2005م ، (و الذي يؤكد الملكية و لكنه ينزع هذه الأراضي مقابل تعويض عادل) فإن مسالة الأراضي في مشروع الجزيرة لم يتم حسمها بالشكل الكافي بعد!!!. و هنا لابد من القول بأنه ما لم تتم معالجة هذه المسالة و بقدر إلحاحها فإنها ستكون حجر عثرة في طريق تطور المشروع.
الجــــــــــــزء الثــــــــــــــالث
الملامح العامة و الوضعية الحالية لمشروع الجزيرة
1- تنظيم المشروع/
من الملامح الأساسية لمشروع الجزيرة هي مساحته و التي تبلغ 2,2 مليون فدان. تم تنظيم هذه المساحة في 18 قسم تراوحت مساحة كل قسم بين 60 ألف إلي 190 ألف فدان. تمّ تقسيم كل قسم إلي عدة تفاتيش ـ و هي جمع تفتيش . تفاوت عدد تفاتيش الأقسام بين 4 إلي 8 تفاتيش للقسم الواحد.و كذلك تمّ توزيع التفتيش الواحد إلي نِمر و مفردها "نمرة"، و مساحة النمرة الواحدة تساوي 90 فداناً. ينتهي التنظيم في تقسيم النمرة الواحدة إلي حواشات، و تتفاوت مساحة الحواشة بين 10 و 40 فدان في الجزيرة رغم أن معظم الحواشات مساحتها 20 فدان. أما في المناقل فتتراوح مساحة الحواشة الواحدة بين 7,5 إلي 30 فدان رغم أن معظم الحواشات مساحتها 15 فدان. من بين أشكال التنظيم نكتفي بتفصيل الأقسام لأنها أكثر الوحدات تلخيصاً لملامح المشروع كما و أنها تلعب دورهاً في الطريقة التي يعتمد عليها في انتخاب و اختيار الممثلين في تنظيم الزراع النقابي و المعروف بـ "اتحاد مزارعي الجزيرة و المناقل". تلك الأقسام، حسب ترتيبها المعروفة به، هي/
(1) القسم الجنوبي (2) قسم الحوش (3) القسم الأوسط (4) قسم المسلمية (5) قسم وادي شعير (6) قسم ود حبـوبه (7) القسم الشمالي (8)القسم الشمالي الغربي (9) قسم أبو قوته (10) القسم الشرقي (11) قسم المكاشفي (12) قسم الشوال (13) قسم الجاموسي (14) قسم الماطوري (15) قسم معتوق (16) قسم المنسي (17) قسم التحاميد ،و أخيرا (18( قسم الهـدى.
و يلاحظ أن القسم الشرقي هو القسم الوحيد الذي يقع خارج منطقة الجزيرة و لا يروى من الخزان، حيث انه يقع في منطقة شرق النيل ، و يروى بالطلمبات. يتبع هذا القسم إداريا لمشروع الجزيرة و يضم كل من ود الفضل، حداف، و الحرقة/ نور الدين.
ويعتقد البعض ـ وهذا فهمٌ سائد ـ أن مشروع الجزيرة هو أكبر مشروع زراعي في العالم تحت إدارة واحدة. وهذا الاعتقاد ليس صحيحاً، إذ أن هناك عدة مشاريع اكبر منه مساحةًً تحت إدارة واحدة.
2- التركيبة السكانية للمشروع و القوى العاملة فيه/
يضم المشروع حوالي 128 ألف زارع، و يكِّونون مع أسرهم حوالي مليون نسمة. هناك حوالي 150 ألف عامل موسمي و يكِّونون مع أسرهم أكثر من مليون نسمة، و يعيشون في أوضاع سيئة و معظمهم في معسكرات تعرف بـ"الكنابي"، و الواحد منها "كمبو". وضعهم بشكلٍ عام أسوأ من وضع الزراع و الذين يعيش معظمهم أيضاً في حالة من الفقر.
و يمكن ألف عامل و موظف يتبعون أو يعملون في إدارة مشروع الجزيرة ، و لقد كان هذا العدد يبلغ حوالي 10 ألف عامل و موظف خلال الثمانينيات من القرن الفائت، خصوصاً بعد الانتقال إلي الحساب الفردي و الذي احتاجت الإدارة بسببه إلي عددٍ كبيرٍ من المحاسبين. و يمكن أن يعتبر هذا النقص واحداً من المؤشرات علي التحولات التي مرت بالمشروع.
يقع ثلث ولاية الجزيرة تحت إدارة المشروع و يتأثر 80% من سكان الجزيرة و البالغ عددهم 6 مليون بشكل مباشر أو غير مباشر بالمشروع. تُمثل ولاية الجزيرة في مجلس إدارة المشروع.و لابد من الإشارة إلي أن بالمشروع ثروة حيوانية تُقدر ب حوالي 3 مليون رأس من المواشي.
3- أصول المشروع/
تتكون أصول المشروع و التي تمتلكها الدولة ممثلة في وزارة المالية من الآتي:
أ- الأراضي التي تملكها الحكومة و التي تبلغ مساحتها حوالي 1, 3 مليون فدان. (يجب ملاحظة أن الـ900 ألف فدان المتبقية هي أراضي ملك حر، كما اشرنا سابقاً).
ب- مراكز الخدمات، أو مراكز التكلفة، و التي تشمل:
* 14 محلجاً ، 7 منها في مارنجان،6 في الحصاحيصا و محلج واحد في الباقير.
* الورش الهندسية
* سكك حديد الجزيرة، و تغطي 1300 كيلو متر ، و
* شبكة الاتصالات.
ج- أسطول من السيارات و الآليات(تركتورات و حاصدات).
د- مخازن سعتها التخزينية تُقدر بحوالي 2,5 مليون طن.
هـ- مباني سكنية و مكاتب و شبكة للطرق.
و- هيئة البحوث الزراعية، و التي كانت فيما سبق تعرف بـ "محطة أبحاث الجزيرة"
ز- شبكة الري و طولها حوالي 150,680 كيلو متر و هي بدورها تتكون من :
* قناتين رئيسيتين طولهما معاً 260 كيلو متر
*11 قناة فرعية ، (تعرف محلياً بـ"الميجر") ، و طولها 650 كيلو متر
* 107 قناة كبرى ( و تعرف محلياً بـ "الكنار")و طولها 1,650 كيلو متر
* 1,570 قناة صغرى ( و تعرف محلياً بـ "الترعة") و طولها 8,120 كيلو متر
* 29,000 أبو عشرين و طولها 40,000 كيلو متر ، و أخيرا
* 350, 000 أبو ستة و طولها يبلغ حوالي 100, 000 كيلومتر.
هكذا كان مشروع الجزيرة علي قدرٍ عالٍ من التنظيم، إلا أن هذه الشبكة و التي كانت تمثل شريان الحياة لمشروع الجزيرة أصابها الكثير من التدهور. و بالنتيجة لحق ذلك التدهور بمجمل نشاط المشروع و عملية الإنتاج فيه.
4- القوانين التي نظمت و تنظم عمل المشروع/
خضع العمل بالمشروع منذ قيامه لقوانين منظمة له و منظمة كذلك للعلاقة بين أطرفه المعروفة و هي حكومة السودان ، إدارة مشروع الجزيرة و التي جاءت خلفاً لشركة السودان الزراعية في العام 1950م ، و الزراع و الذين يمثلهم اتحاد المزارعين. لم تكن تلك القوانين ثابتة و إنما تحولت و تطورت حسب مراحل التطور التي شهدها المشروع عبر تاريخه. إنها لم تكن مرتبطة بتلبية احتياجات التنظيم في المشروع فحسب و إنما و بنفس القدر أو أكثر قد ارتبطت بالظروف و بالتحولات السياسية التي شهدها السودان.
سنشير إجمالا للقوانين التي نظمت العمل في مشروع الجزيرة مع التركيز بشكلٍ خاص علي آخر تلك القوانين و هو قانون العام 2005م. و يمكن تتبع تلك القوانين كما يلي/
منذ البداية قام المشروع و خضع لبنود اتفاقية 1925م التي تمت بين إدارة الحكم الثنائي و شركة السودان الزراعية.و التي أوضحت حقوق و واجبات كل طرف. في العام 1926م صدرت اتفاقية الإجارة بين شركة السودان الزراعية و المستأجرين (الزراع)، و تمّ تطويرها في العام 1936م. و أعقبها في العام 1927م صدور قانون أراضي الجزيرة و الذي بمقتضاه تمت الإجارة القسرية لأراضي الملك الحر بمشروع الجزيرة ، والذي حلّ مكان قانون العام 1921م.
و كذلك صدر قانون مشروع الجزيرة للعام 1950م، حيث انتقلت بموجبه إدارة مشروع الجزيرة من شركة السودان الزراعية إلي إدارة مشروع الجزيرة. و بعده صدر قانون للعام 1960م لتقنين إضافة امتداد المناقل ليصبح جزءاً من مشروع الجزيرة. و تلك هي الفترة التي شهد فيها مشروع الجزيرة توسعاً كبيراً في مساحته و زيادة في عدد زراعه، و بالطبع اثر ذلك في سير تطور المشروع في جوانب عدة اقلها قوة و اتساع نفوذ اتحاد مزارعي الجزيرة و المناقل.
و في العام 1984م صدر القانون الذي قنن الحساب الفردي الذي طُبِق عملياً في العام 1981 م، عند إلغاء الحساب الجماعي. و يعتبر إلغاء الحساب الجماعي المشترك واحداً من التحولات المؤثرة في مسار المشروع. أثار ذلك التحول جدلاً واسعاً إن كان داخل مشروع الجزيرة و بين أطرافه أو خارجه.
أما آخر قانون صدر بشأن تنظيم العمل في مشروع الجزيرة فهو قانون مشروع الجزيرة للعام 2005م و الذي وافق عليه و أجازه البرلمان الحالي أي المجلس الوطني. و سيكون الجزء الخامس من هذه السلسلة مكرس لعرض و تناول ذلك القانون.
-5 دور مشروع الجزيرة في التحول الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي في الســــودان/
إن الحديث في هذا الجانب فيما يخص المشروع ـ و الإشارة لدكتور سلمان ـ شائك و معقد و طويل، حيث أن استجلاءه قد يحتاج إلي جهودٍ متضافرة، كذلك، من ذوي الاختصاصات في حقول الاقتصاد، علم الاجتماع و علوم السكان و غيرها. و في هذا الصدد أود إضاءة الحقائق التالية/
أولا/ احدث مشروع الجزيرة طفرة كبرى في المناحي الاقتصادية و الاجتماعية بمنطقة الجزيرة. و ساهم كذلك مساهمة بينة في الاقتصاد السوداني ككل حتى بداية السبعينيات من القرن المنصرم.
ثانياً/ صار المشروع قبلة للسودانيين من كل أنحاء البلاد، و بل من دول غرب أفريقيا حيث أصبح بالتالي نقطةً للتداخل بين هذه المجموعات المختلفة.
ثالثاً/ ساهم المزارعون و العاملون بالمشروع من موظفين و عمال في إرساء العمل النقابي في السودان و تطويره ليساهم بشكل فاعل في نيل السودانيين لاستقلالهم، حيث نفذ العمال و الموظفون إضراب العام 1941م و كذلك نفذ المزارعون إضراب العام 1946م بواسطة تنظيمهم المعروف بـ "جمعية المستأجرين بالجزيرة" و ذلك، بالطبع، قبل أن يتحول تنظيم المزارعين ليعرف بـ "اتحاد مزارعي الجزيرة و المناقل" كما هو الآن. كان شيخ احمد بابكر ازيرق أول رئيس لجمعية المستأجرين ، في حين أن شيخ الأمين محمد الأمين كان أول رئيس لاتحاد المزارعين.
لعب اتحاد المزارعين ( لاحظ انه لم يحمل اسم اتحاد المستأجرين) دوراً رائداً في ثورة أكتوبر 1964م، و الذي علي أثره كان أن اختير شيخ الأمين محمد الأمين وزيراً لحقيبة الصحة في حكومة أكتوبر 1964م. و قد كان في ذلك اعترافٌ واضحٌ بدور المزارعين في انجاز ذلك التحول السياسي الذي انتظم البلاد وقتها.
هكذا كان مشروع الجزيرة و بكل قطاعاته دائماً في قلب التحولات التي شهدها السودان، و قد أهله لذلك الموقع ليس فقط العمل النقابي القوي الذي كانت تقوم به قيادات المزارعين و العمال و الموظفين ، و إنما أهله أيضا السند الحقيقي الذي كان يقدمه لدعم الاقتصاد الوطني في كل عمومه. أعقب ازدهار المشروع تدهورٌ بدأت بوادره تلوح في مطلع السبعينيات من القرن الماضي. و هو تدهورٌ قعد بالمشروع من أن يلعب ذلك الدور الذي كان أن قام به و لعقودٍ من الزمن.
كانت هنالك أسباب كثيرة وراء ذلك التدهور. و سيكون ذلك هو محل تناولنا في الجزء القادم.
الجزء الرابـــــــــــع
تــدهـــــور المشــــــــــروع و أسبابه/
بدأ مشروع الجزيرة، تاريخياً، يشهد تدهوره الملحوظ منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي. أدى ذلك التدهور إلي تفاقم المشاكل التي كانت موجودة أصلا، ثم إن هناك مشاكل أخرى استجدت علي أثره مما سارع في وتيرة تراجع المشروع و علي كل المستويات. و ما تكوين اللجان المختلفة و في الفترات التاريخية المختلفة إلا دليل علي إحساس الحكومات المتعاقبة، و القائمين علي أمره بخطورة الوضع السيئ الذي يواجهه المشروع.
كانت هناك عدة أسباب وراء تدهور مشروع الجزيرة و التي يمكن تلخيصها فيما يلي/
أولا/ إن عمليات صيانة قنوات الري كانت متخلفة و دون التحدي الذي كانت تفرضه مشكلة الطمي الوارد من الهضبة الأثيوبية و بكميات كبيرة، حيث بدأ يتراكم في القنوات المختلفة مما أدى إلي تكاثر الحشائش و بالتالي اثر علي أداء تلك القنوات و أدى في النهاية إلي ضعف أدائها في عملية الري.
ثانياً/ أثّر وجود الطمي أيضاً علي أداء خزاني سنار و الروصيرص، حيث فقدا نصف طاقتيهما التخزينية بسببه. و هنا لابد من الإشارة إلي الأثر السلبي لاحتدام التنافس علي استغلال مياه خزان الروصيرص بين الاستعمالات لأغراض الري و الاستعمالات لأجل توليد الطاقة الكهربائية إذ أن الخزان لم يكن، في الأصل، مصمصا لأداء الاثنين معاً.
ثالثاً/ كان لزيادة أسعار المحروقات عالمياً، و التي بدأت في العام 1973م، آثاراً واضحة علي المدخلات الزراعية و الوقود حيث فشلت الحكومة في توفير العملة الصعبة لأجل استيرادها.
رابعاً/ أدت زيادة الإنتاج من القطن في آسيا الوسطى و الصين و الهند إلي تدني أسعاره عالمياً. و قد كان لذلك أثره علي دخل المشروع من محصول القطن.
خامساً/ أدت الزيادة الكبيرة في تكاليف الإنتاج إلي إضعاف رغبة المزارعين في الزراعة مما أدّى إلي هجرة عددٍ كبيرٍ لها و كذلك إلي توقف الكثيرين منهم عن العمل فيها.
سادساً/ تحت هذه الظروف غير المواتية لم يؤد التغيير من نظام الحساب الجماعي المشترك إلي الحساب الفردي للنتائج المتوقعة، خاصة و أنه كانت هناك أصلاً ليس فقط تحفظات و إنما معارضة من عددٍ من المزارعين لذلك.
سابعاً/ دخل المشروع عملياً فيما يسمى بالحلقة المفرغة أو الدائرة الجهنمية، و التي تبدأ بالري الضعيف الذي يساهم فيه الأداء الضعيف لشبكة الري و عدم إشراك المزارعين في عملية الري. وذلك الري الضعيف يؤدى بالتالي إلي تدني الإنتاج و الذي ينعكس بدوره في مداخيل منخفضة و غير مجزية مما يتسبب في تفشي حالة من عدم الرضا بين المزارعين، هذا من جانب ،أما من الجانب الآخر فإنه يودي إلي عجز في استرداد تكاليف الري و بالتالي إلي ضعف تمويل الصيانة و التشغيل ، و معلومٌ أن عدم القيام بالصيانة و ضعف التشغيل لا يؤديان في نهاية الأمر إلا إلي وجود شبكة للري متهالكة ، و دون وظيفتها مما يؤدي إلي ضعف عملية الري، و من هنا تبدأ الحلقة الشريرة في التكرار و الدوران الجهنمي!!!.
ثامناً/ التخبط في السياسات الزراعية و قصر فترات وزراء الزراعة و مديري المشروع زاد الوضع سوءاً. في فترة السبعينيات كان متوسط فترة خدمة وزير الزراعة عام و احد، كما و إننا نجد انه و منذ العام 1955م تعاقب علي المشروع عشرون محافظاً و مديراً عاماً بالإضافة إلي عددٍ كبيرٍ من المديرين بالإنابة.
تاسعاً/ لم تؤد محاولات إعادة تأهيل البنية التحتية للمشروع في العام 1983م إلي نتائج ايجابية بسبب غياب الإصلاح المؤسسي.
جرت عدة محاولات في التصدي لتدهور المشروع، و كونت عدة لجان و في فترات مختلفة كما أسلفنا. و قد اعتمدت تلك اللجان بشكلٍ أساس علي كتاب آرثر جيتسكل " الجزيرة ـ قصة تنمية في السودان"، و الذي صدر في عام 1959م و لكنه ما زال المرجع الأساس لقصة قيام و تطور مشروع الجزيرة. و من أهم تلك اللجان و التقارير/
(1) تقرير محطة أبحاث الجزيرة الذي صدر عام 1963م و تناول بشكلٍ أساس القضايا المتوقع حدوثها بعد اكتمال العمل في امتداد المناقل.
(2) تقرير البنك الدولي لعام 1966م و الذي أُطلق عليه "تقرير ريتس" إشارةً إلي السيد "ليونارد ريتس" رئيس فريق العمل الذي أعدّ التقرير.
(3) تقرير "اللجنة العاملة لمشروع الجزيرة" لعام 1967م. و قد ترأس تلك الجنة الدكتور حسين إدريس و قد ساهم معه في إعداد التقرير البروفيسور سمسن أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة.
(4) تقرير البنك الدولي لعام 1983م، و الذي تمّت بموجبه إعادة تأهيل مشروع الجزيرة بقروض ميسرة من البنك الدولي و الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الحكومتين الايطالية و اليابانية. و قد كان شرط المانحين لتقديم عونهم إصدار قانون مشروع الجزيرة لعام 1984م، و هذا ما حدث.
(5) التقرير الوزاري في العام 1993م الذي جاء إثر التحولات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة في تلك الفترة.
(6) تقرير لجنة عام 1998م، و التي ترأسها الدكتور تاج السر مصطفى، و قد تعرضنا لهذا التقرير في الحلقة الأولى، و قد أوصى ذلك التقرير بقيام شركة مساهمة تؤول إليها ملكية مشروع الجزيرة.
(7) تقرير الفريق المشترك بين البنك الدولي و حكومة السودان لعام 2000م، و الذي أعقبه صدور قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م.
(8)تقرير لجنة الإصلاح المؤسسي لمشروع الجزيرة برئاسة الدكتور عبد الله احمد عبد الله لعام 2004م.
(9) تقرير ورشة العمل الأولى التي انعقدت عام 2004م حول مسودة قانون مشروع الجزيرة.
(10) تقرير ورشة العمل الثانية التي ترأسها الدكتور مأمون ضوء البيت، و التي انعقدت عام 2005م حول تطبيق قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م.
(11) تقرير لجنة عام 2007م ، و التي ترأسها الدكتور عبد الوهاب عثمان . وقد ناقش تقريرها المعوقات التي تقف في طريق تنفيذ قانون العام 2005م.
و نسبةً للطبيعة الصُحفية لهذا العرض و لضيق المساحة لن نعرض بالتفصيل لكل التقارير، و لكنا سنكتفي بإلقاء بعض الضوء علي ثلاثة منها.
أولا/ تقرير "ريتس" لعام 1966م:
كان البنك الدولي قد موّل بعض تكلفة البنية التحتية و الآليات و الدراسات الخاصة بامتداد المناقل عام 1960م. و موّل أيضا الجزء الأكبر من تكلفة خزان الروصيرص عام 1961م بعد توقيع اتفاقية مياه النيل في العام 1959م. و عليه فقد وافق البنك الدولي علي الطلب الذي قدمته حكومة عبود في أوائل العام 1964م لدراسة مسألة التركيبة المحصولية لمشروع الجزيرة، إضافة إلي تكوين و تحديد صلاحيات مجلس إدارة مشروع الجزيرة. و قد واصلت اللجنة أعمالها بعد قيام ثورة أكتوبر 1964م، و أصدرت تقريرها في العام 1966م. و قد عمل مع فريق البنك الدولي مجموعة من الخبراء السودانيين علي رأسهم البروفيسور "النذير دفع الله" مدير جامعة الخرطوم وقتها.
ركّز التقرير عموماً علي علاقات الإنتاج داخل المشروع، و انتقد بشدة نظام الحساب الجماعي وقتها، و أشار إلي أن نظام الشراكة يقلل كثيراً من حوافز الإنتاج بالنسبة للمزارع. و قد اقترح التقرير إدخال حرية اختيار المحاصيل. و لكن هذه التوصية رُفِضت بشدة بواسطة الحكومة و إدارة المشروع. اقترح التقرير أيضا إدخال تجربة تربية الحيوان بالمشروع، و كذلك تنظيم المزارعين في جمعيات تعاونية.
ثانياً/ تقرير لجنة د. حسين إدريس:
اتفقت هذه اللجنة مع لجنة البنك الدولي في مقترح حرية اختيار المحاصيل و رأت أيضا أن صغر مساحة الحواشة ليس اقتصادياً و أن الحيازات الكبرى أقل تكلفةً من الصغرى. و اقترحت اللجنة تجميع الحيازات في منطقة واحدة للمزارع الواحد، و رفع الحد الأدنى بالنسبة للحيازة، كما و اقترحت أيضاً إلغاء نظام الشراكة و الاستعاضة عنه برسوم سنوية علي الأرض. و أوصت اللجنة أيضا بإدخال اللامركزية في إدارة الأقسام، و إعطاء كل قسم الصلاحيات في إدارة العمليات الزراعية.
ثالثاً/ تقرير البنك الدولي لعام 2000م:
أعدّ هذا التقرير فريق العمل المشترك بين البنك الدولي و حكومة السودان. أشار التقرير إلي ضرورة الإجماع حول رؤية محددة عن البنية المستقبلية و التشغيلية لمشروع الجزيرة.و قد ورد في التقرير ما يلي/
" إن الرؤية لمشروع الجزيرة في هذا التقرير هي أنه سوف يصبح مركزاً لنشاط اقتصادي و اجتماعي متزايد حيث يكون القطاع الخاص قد قام بالاستثمار و إنشاء مؤسسات لمقابلة متطلبات خدمات الإنتاج الزراعي للمزارعين. و تشمل الرؤية في نهاية المطاف إنشاء سلطة مستقلة ذات إدارة خاصة تقوم بتشغيل المشروع بربح. و سوف تقوم سلطة المشروع بجعل المسئوليات عن بعض النشاطات الإدارية لا مركزية تتولاها مجموعات المزارعين ذات الكفاءة. أما مسئوليتها (بالتعاون مع الوزارات المختصة مثل وزارة الري و الموارد المائية، وزارة الزراعة و الغابات و هيئة البحوث الزراعية) فهي أن تقوم بتنظيم عملية تقديم مجموعة أساسية من الخدمات المؤسسية مثل الري، الإرشاد الزراعي و توفير و نشر المعلومات عن السوق للمزارعين علي أسس بيئية مستدامة. أخيراً فان سلطة المشروع بالتعاون مع حكومة الولاية سوف تضمن تقديم خدمات اجتماعية أفضل لكافة أعضاء مجتمع الجزيرة."
و قد جاء في التقرير أيضاً " أن النتيجة الرئيسية التي توصل إليها التقرير هي أن مشاكل المشروع يمكن معالجتها بنجاح و لهذا فإن الرؤية التي وصفت أعلاه يمكن تحقيقها عبر شراكة بين القطاع العام و القطاع الخاص". و في توضيح أمر هذه الشراكة ورد في التقرير،" أن مشروع الجزيرة كمؤسسة عامة يستطيع زيادة فعاليته بدرجة كبيرة إذا ركز علي بناء و صيانة البنيات التحتية الرئيسية، التخصيص العام ( بالتشاور مع مجموعات من المزارعين) للمنطقة المروية لدورات المحاصيل المختلفة، توزيع مياه الري عن طريق القنوات الرئيسية لمقابلة الطلب علي المياه، و تقديم مجموعة خدمات أساسية مساندة للمزارعين مثل الإرشاد الزراعي، و معلومات عن السوق للسلع المنتجة في مشروع الجزيرة.
إن القطاع الخاص (و بالتحديد مجموعات المزارعين و رجال الأعمال الآخرين) يمكنه المساهمة في الكفاءة الإجمالية و عدالة المشروع و ذلك بقيامهم بتحمل المسئولية الأساسية (عن طريق مجموعات مستخدمي المياه) عن قرارات مجموعات المزارعين حول دورات المحاصيل المفضلة، توزيع المياه عن طريق الترع الصغيرة لإشباع مطالب مجموعات المزارعين لاستخدام أمثل للمياه و استرداد فعال لتكاليف الري و كذلك تقديم خدمات مثل الحراثة و مبيعات السماد."
و لتنفيذ تلك الإستراتيجية أشار التقرير إلي ضرورة اتخاذ جملة خطوات تتعلق بقيادة العمل في المشروع، العون الإداري، توفير الكميات الكبيرة من المياه، تحفيز القطاع الخاص، حرية اختيار المزارعين للمحاصيل، تسويق الأقطان و كذلك إتاحة الفرصة للمزارعين في بيع و شراء حقوق الملكية داخل المشروع.
و في شأن التغييرات المشار إليها أعلاه يقول التقرير،" هي تغييرات مؤسسية في المدى المتوسط و الطويل الأجل بالرغم من أن التنفيذ يمكن أن يبدأ نسبياً بسرعة. رغم كل ذلك فإنه من الضروري تحسين فعالية و كفاءة المشروع بأسرع ما يمكن. و توصل الفريق المشترك إلي أن ذلك يمكن فعله بتطبيق مجموعة من الأفعال القصيرة الأجل لتحسين الحافز للمزارعين و إدارة مشروع الجزيرة مما يؤدي إلي تحسن يكاد يكون فورياً في الأداء التقني و تدفقات الدخل. و هناك دعم قوي لهذه الأعمال بين إتحاد مزارعي الجزيرة و المناقل، إدارة مشروع الجزيرة و الإداريين من الحكومة."
و من توصيات التقرير/
" تحديد سياسة الحكومة:
1- عملية اتخاذ القرارات و التشاور: نظراً للمشاركة الكبيرة لموظفي الخدمة المدنية في إعداد هذا التقرير يوصي بأن تصدر الحكومة قراراً حول مبادئ و أسس سياسة الإصلاح المؤسسي في مشروع الجزيرة لكي تحرك عملية التشاور و التخطيط لتطبيق الإصلاحات. يوصي الفريق المشترك بأن عملية الإصلاح السياسي و المؤسسي بمشروع الجزيرة يجب أن تتضمن مشاركة مكثفة من أصحاب المصلحة بما في ذلك حكومة الولاية.
2- توصية أساسية:
يوصي التقرير بأنه في المدى القصير و المتوسط يجب أن تستمر الحكومة في الاتجاه في السنوات الأخيرة نحو تحويل العديد من مهامها للقطاع الخاص. يجب إقامة شراكة تكون فيها إدارة مشروع الجزيرة مسئولة عن بناء و صيانة منشئات البنية التحتية الرئيسية و أن يسمح لروابط مستخدمي المياه بأن تكون مسئولةً عن إدارة المياه في الترع الصغيرة و تقديم خدمات معالجة الإنتاج. و في المدى البعيد يجب أن يصبح مشروع الجزيرة هيئة مستقلة لا تربطها صلات رسمية بالحكومة."
و يرى التقرير أن هناك خطوات لابد من اتخاذها في المستقبل المنظور/
" أولا: قرار من الحكومة حول الرؤية المتوسطة و الأبعد مدى و التي سوف تصبح سياسة الحكومة.
ثانياً: قرار من الحكومة حول النتائج التي توصل إليها الفريق المشترك، حول التغيير المؤسسي لتحقيق تلك الرؤية و حول أي موجهات ترغب في وضعها حول مسائل مثل السياسة العامة و توقيت و تسلسل عملية التغيير المؤسسي.
ثالثاًً: أن تعين الحكومة هيئة تكون مسئولة عن تنفيذ هذه السياسة. توصل الفريق المشترك إلي أن مجلس إدارة مشروع الجزيرة هو الهيئة المناسبة و يجب أن يساعده فريق عون إداري.
رابعاً: أن تؤكد الحكومة بأن اللجنة الوزارية الموجودة لتنفيذ مشاريع الري سوف تكلف بمسئولية مراجعة تقدم تنفيذ قرارات الحكومة الخاصة بسياستها تجاه مشروع الجزيرة كجزء من التزامات اللجنة الوزارية الدائمة.
خامساً: يجب أن تخصص الحكومة أموالا ً لتمويل أعمال الهيئة المكلفة بتطبيق قرارات الحكومة و استكشاف مصادر تمويل للدراسة التفصيلية عن تكلفة و فوائد تأهيل البنية التحتية لمشروع الجزيرة.
سادساً: أخيراً يجب أن يكون هناك نشر واسع لقرارات الحكومة حول سياسة المشروع بين المزارعين و أيضاً مجتمع الجزيرة الواسع و إنشاء إطار للتشاور المستمر حول الخطط المستقبلية للتغييرات المؤسسية و الإدارية في مشروع الجزيرة مع أصحاب المصالح و يشمل ذلك حكومة ولاية الجزيرة."
و قدم التقرير العديد من التوصيات حول العديد من جوانب البنية التحتية للمشروع.
في ختام هذا الجزء من الندوة لابد من الإشارة إلي حقيقة أنه أصبح واضحاً من محاولات التصدي لمشاكل مشروع الجزيرة و من خلال تكوين اللجان و تقديم الدراسات المتعددة أن قضايا هذا المشروع كبيرة و معقدة، و أنها تحتاج إلي جهدٍ أكبر و تبني سياساتٍ معقولة تؤدي في مداها البعيد إلي استقرار المشروع و استقرار العلاقة بين كل أطرافه، زراعاً ، إدارةً و حكومةً. و في ضوء ذلك سيكون تناولنا لقانون العام 2005م في الجزء القادم .





________________________________________
--- تكملة الورقة ---

الجزء الخامــــــــــــس
قانــــــــون مشروع الجزيرة للعام 2005م

الملامح الأساسية للقانون/
يعتبر صدور قانون مشروع الجزيرة في يوليو عام 2005 من أهم التطورات التي شهدها مشروع الجزيرة منذ إنشائه، أن لم نقل أنه أهم تطورٍٍٍٍٍٍٍ في تاريخ المشروع. فقد أدخل هذا القانون تغييرات جذرية على وضعية المشروع و على نمطي الإنتاج و الإدارة بالمشروع. الغى هذا القانون وحلّ محل قانون 1984م، كما ألغى أيضا قانون أراضي الجزيرة لعام 1927م.
يُعرِف القانون في المادة 4 مشروع الجزيرة بأنه مشروعٌ اقتصادي و اجتماعي ذو نشاطٍ متنوع، يتمتع برعاية قومية للتنمية، وله شخصية اعتبارية مستقلة إداريا و مالياً و فنياً و صفة تعاقبية مستديمة وخاتم عام وله حق التقاضي باسمه. كما أكّد القانون ملكية الدولة ـ ممثلة في وزارة المالية و الاقتصاد الوطني ـ لأصول المشروع. و حدد تكوين المشروع من
(1) المزارعين
(2) الحكومة ممثلة في وحداتها التي تقدم الخدمات الأساسية ومن ضمنها الري والسلع العامة التي تشمل البحوث و وقاية النباتات والتقانة و الإرشاد و الدراسات الفنية و التدريب إضافة إلى الإدارة الإشرافية و التخطيط، و
(3) القطاع الخاص بما يقدمه من خدمات تجارية مساعدة.
سنّ القانون عدداً من المبادئ الأساسية المهمة، يمكن تلخيصها في الآتي/
المبدأ الأول هو مبدأ حرية اختيار المحاصيل الذي تضمنته المادة (5) الفقرة (هـ) من القانون، حيث أوردت،"كفالة حق المزارعين في إدارة شأنهم الإنتاجي و الاقتصادي بحرية كاملة في إطار المحددات الفنية و استخدام التقانة للارتقاء بالإنتاجية و تعظيم الربحية منها". هذا النص يحتوي علي أهمية خاصة . فهو يعني ببساطة الآتي/
أولا: فك الارتباط التاريخي بين مشروع الجزيرة و إنتاج محصول القطن.
ثانيا:ً إنهاء الحلقة الأساسية في علاقات الإنتاج داخل المشروع بين المزارعين و إدارة مشروع الجزيرة والتي تمثلت في زراعة القطن و الإشراف عليه و تمويله. و هذا بالطبع تحولٌ كبير و جذري، و هو بلا شك اكبر تحول يمر به المشروع منذ إنشائه قبل ثمانين عاماً. و رغم أن القانون كان أن صدر في العام 2005م، إلا أن تطبيق هذا المبدأ لم يتم حتى موسم 2007 ـ 2008م، كما سيأتي ذلك لاحقاً في هذا المقال.
كان هذا التحول مثاراً للجدل و الخلاف حيث انتقده البعض، بل و رفضوه، باعتبار انه ينهي الدور التاريخي للمشروع في زراعة القطن، هذا من الجانب الأول، و يلغي، من الجانب الثاني، دور الدولة في تحديد أولوياتها بالنسبة للمحاصيل التي سوف تتم زراعتها، أما من الجانب الثالث فإنهم يرون أن هناك مخاطرة في زراعة محاصيل قد يكون المشروع غير مهيأ لها. وأما علي صعيد المرحبين به فإنهم أولا يرون أن المستأجر في المشروع ولأول مرة يتحول إلي مزارع له حرية اتخاذ القرار فيما يريد زراعته و تحمل تبعات ذلك كاملةً. ثانياً، إنه ينهي الامتياز القسري لمحصول القطن، أما ثالثاً فإنه يضع حداً للنظام السلطوي لإدارة المشروع بواسطة مجلس الإدارة الذي درج علي تحديد المحاصيل و تمويل القطن و الإشراف العام عليه.
المبدأ الثاني الذي اقره القانون في المادة (16)، هو تمليك الأراضي للمزارعين. و في هذا الشأن وردت ثلاث معالجات كما يبين من الفقرة (2)، و هي/
"أ. المزارعون أصحاب الملك الحر الذين خُصصت لهم حواشات بموجب تلك الملكية تسجل لهم تلك الحواشات ملكية عين بسجلات الأراضي.
ب. الملاك الذين لم ُتخصص لهم حواشات عند التفريقة والذين لهم فوائض أرض وفق الفقرة (أ) تؤول أراضيهم للمشروع مع تعويضهم تعويضاً عادلاً.
ج. يملّك بقية المزارعين في المشروع من غير أصحاب الملك (الحواشات) التي بحوزتهم ملكية منفعة لمدة تسعة وتسعين عاماً."
واضحٌ أن هذه المادة قد أنهت الإيجار القسري للأراضي الملك الحر ، و قامت بتمليك الأراضي بالمشروع للمزارعين إما ملكية عين أو ملكية منفعة. كما و أنها قضت بنزع الأراضي من غير المزارعين و تعويضهم تعويضاً عادلاً. هذا هو الآخر تحولٌ جذري ينهي الإجارة القسرية التي استمرت ثمانين عاماً، غير انه ما زال تطبيق هذه المادة بعيد المنال و ذلك لمطالبة المالكين بمبالغ ضخمة تمثل كل من أولا الإيجار منذ عام1972م و ثانياً التعويض عن أراضيهم. و في صدد الإيفاء بدفع هذه المبالغ ، ترى وزارة المالية انه يجب علي إدارة مشروع الجزيرة و المزارعين القيام بذلك. و لكن الواقع أن إدارة المشروع تغالب صعوبات حقيقية في دفع استحقاقات العاملين، كما و أن المزارعين ليسوا في وضعٍ يسمح لهم بدفع هذه المبالغ.
المبدأ الثالث هو إعطاء المزارع الحق في التصرف في الحواشة بالبيع أو الرهن أو التنازل وفق الموجهات التي يضعها المجلس. و قد ورد هذا المبدأ في المادة (17) و أثار الكثير من الجدل حيث اعتبره البعض امتداداً لحرية المزارع في ترك الزراعة ببيع حواشته و من ثمّ التحول إلي عملٍ آخر أن أراد ذلك. كما رأى البعض أن ضمان حق الرهن يفتح إمكانيات تمويل كبيرة للمزارعين. من جانبٍ آخر هناك منْ رأى أن إقرار مبدأ كهذا سيشجع المزارعين علي هجر الزراعة و سيؤدي بهم إلي خسارة أراضيهم المرهونة في حال عجزهم عن سداد ديونهم.
لابد من الإشارة هنا إلي أمرين الأول هو أن تطبيق هذا المبدأ لم يتم بعد لان نقل ملكية الأرض للمزارعين لم يتم بعد هو الأخر، أما الأمر الثاني فهو أن ملكية الحواشة قد تمّ تقييدها بشروطٍ محددة في المادة 16 من القانون نفسه تلخصت في استغلال الحواشة لأغراض الزراعة فقط، عدم تفتيت الملكية و أخيرا في حالة بيع الحواشة أو التنازل عنها يتم تطبيق أحكام الملكية بالشفعة.
المبدأ الرابع وهو إنشاء روابط مستخدمي المياه لإدارة و صيانة وتشغيل قنوات الحقل بالمشروع. و هذا المبدأ أقرته المادة (19) حيث نصت،
" (أ) تُنشأ روابط لمستخدمي المياه تحت إشراف المجلس على مستوى المشروع تمثل الإدارة الذاتية للمزارعين ذات شخصية اعتبارية وتسلَّم لها مهام حقيقية في إدارة استخدامات المياه بالتعاقد مع وزارة الري والموارد المائية في مجال الإمداد المائي والاستشارات الفنية."
"(ب) تنشئ وزارة الري والموارد المائية إدارة خاصة لري مشروع الجزيرة."
تعرضت فكرة روابط مستخدمي المياه إلي نقدٍ عنيف، و من ضمن ما قُدم في ذلك النقد
أولا، أنها فكرة غريبة علي السودان و لم تطبق من قبل في أي مشروع زراعي.
ثانياً، أنها فكرة تخص و ترتبط بالدول التي تعاني من شح المياه و مصادرها.
ثالثاً، إن تطبيقها يلغي دور وزارة الري و مجلس الإدارة و يحيله إلي المزارعين.
و رابعاً، إن المزارعين غير مؤهلين للقيام بهذا الدور.
و من ضمن النقد أن هذه الروابط تخلق وسيطاً جديداً بالإضافة إلي وزارة الري و مجلس الإدارة، و أنها ستؤدى ً إلي فصل الشبكة الصغرى عن الشبكة الكبرى.
حريٌّ بالإشارة، أن فكرة روابط أو اتحادات مستخدمي المياه ترجع في بروزها إلي سبعينات القرن الماضي و قد تمّ تطبيقها في عدة أقطار من العالم. تعتبر الدراسة التي قدمها دكتور سلمان محمد احمد سلمان ـ " الإطار القانوني لاتحادات مستخدمي المياه"ـ و التي قام البنك الدولي بنشرها في عدة لغات - واحدةً من الدراسات المقارنة القليلة التي تناولت تلك الفكرة. فبالرغم من أن الدراسة كان أن عالجت الإطار القانوني لروابط و اتحادات مستخدمي المياه، إلا أنها و من ضمن ما خلصت له هو أن مشاركة المزارعين عبر اتحادات مستخدمي المياه المنتخبة ديمقراطياً و المسجلة كشخصية اعتبارية قانونية في إدارة و تشغيل و صيانة أجزاء من أنظمة الري، قد أدت فعلياً إلي الآتي/
1- الاستخدام المرشد للمياه و الذي أدى وبالنتيجة إلي وفورات فيها.
2- ازدياد إمكانية الصيانة الجيدة لمرافق الري.
3- تقليل تكلفة التشغيل و الصيانة بصورةٍ كبيرة.
4- وضع الحد لمركزية تقديم الخدمات.
5- تمليك المزارعين و تمكينهم من صلاحيات إدارة شئونهم.
أشار مقدم الندوة إلي نتائج دراسة أخري قام بنشرها في العام الماضي تحت عنوان " الإطار القانوني لإدارة الموارد المائية". تبين من نتائج تلك الدراسة أن هناك أربعة عشر دولة من ضمن الستة عشر دولة التي شملتها الدراسة قد قامت بتبني فكرة "اتحادات مستخدمي المياه" و طبقتها بصورة مكثفة و تأكد نجاحها في تحقيق أهدافها، وأن الإصلاح المؤسسي في قطاع الري في معظم أنحاء العالم قد تبنى فكرة إنشاء روابط مستخدمي المياه. بل أن بعض الدول قد شكلت اتحادات لهذه الروابط وأناطت بها مسئولية تشغيل و صيانة القنوات الكبرى و الرئيسية، وأنه في دولة شيلي قامت هذه الروابط بشراء القنوات والخزانات من الدولة وتقوم بإدارتها كمالك وليس فقط تحت عقد إدارة.
نصّ قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م في المادة 28.(4) علي أن " يتم تسليم قنوات الحقل لروابط مستخدمي المياه بعد تأهيلها". ولكن، و بما أن التأهيل لم يتم بعد فإن إنشاء الروابط و تسليم قنوات الحقل لها لم يتم بعد هو الآخر.
المبدأ الخامس: تقليص دور مجلس الإدارة: تعرض القانون لتشكيل و تحديد اختصاصات و سلطات مجلس إدارة مشروع الجزيرة. ويتكون المجلس من رئيس يعينه رئيس الجمهورية وأربعة عشر عضواً. و يُمثل المزارعون في المجلس بنسبة لا تقل عن 40% من عضوية المجلس. و يشمل المجلس أيضاً ممثّل للعاملين بالمشروع و ممثلين للوزارات المختصة (تشمل المالية، الزراعة، الري، التقانة، بنك السودان، و وزارة الزراعة بإقليم الجزيرة.) قلص القانون دور المجلس تقليصاً واضحا, و تتضمن المادة 9ً اختصاصات مجلس الإدارة والتي تتلخص في:
(أ) وضع الأسس العلمية للدراسات البحثية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة لحسن استخدام موارد المشروع لتحقيق أعلى معدلات ربحية ممكنة.
(ب) وضع السياسات التشجيعية العادلة لتنفيذ سياسات الدولة الإستراتيجية للمحاصيل الزراعية.
(ج) إدارة وتطوير الخدمات الأساسية المتمثلة في البحوث ووقاية النباتات والتقانة والإرشاد وإكثار البذور والتدريب والطرق الداخلية.
(د) إرساء نظام تكافلي يسمح بتعويض المزارع المجد حال تعرضه للآفات والكوارث الطبيعية.
(ه) وضع المحددات الفنية للتركيبة المحصولية والدورة الزراعية.
(و) اعتماد الخطط والبرامج المرفوعة من المدير العام (و الذي يقوم بتعيينه المجلس).
(ز) تحديد فئة خدماته التي يؤديها بالتنسيق والاتفاق مع الجهات المختصة ويتم تحصيلها من المزارعين بواسطة روابط مستخدمي المياه.
يتضح من هذا العرض أن دور المجلس قد تقّلص و ينحصر في البحوث و الاستشارات و الدراسات و وضع السياسات الزراعية، و أن عليه أن يتحصل على فئة خدماته من المزارعين. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن إلغاء نظام زراعة القطن القسرية أدىً إلي التقليل من اعتمادات المجلس المالية بسبب تناقص دخل المجلس من عائدات تمويل محصول القطن و المدخلات الزراعية.
هذه هي المبادئ الخمسة الأساسية التي يرتكز عليها القانون. و لابد من الإشارة هنا إلي انه من بين هذه المبادئ لم يتم غير تطبيق مبدأ حرية اختيار المحاصيل، و الذي طُبِق في هذا الموسم 2007م/2008م. وبمقارنة بينه و الموسم السابق 2006م/2007م نجد أن المساحة المزروعة قطناً قد تقلصت إلي حوالي 90 ألف فدان هذا الموسم بدلاً عن حوالي 250,000 فدان في الموسم السابق، بينما زادت المساحة المزروعة قمحاً لتصل إلي حوالي 427,000 فدان و قد كانت حوالي 294,000 فدان في الموسم الماضي. و هذا الابتعاد الكبير عن زراعة القطن لا بد أن يكون مؤشراً على تجربة المزارعين مع محصول القطن من النواحي الاقتصادية و الفنية و الإدارية و غيرها من المناحي.
كذلك تم إعادة تشكيل مجلس الإدارة حسب مقتضيات المادة 6 من القانون. و يُلاحظ أن وزير الزراعة لم يعد رئيساً للمجلس وهذا تأكيدٌ للوضع الذي ساد في السنوات الخمس الماضية وألغى رئاسة وزير الزراعة للمجلس والتي كانت قد تضمنتها القوانين السابقة للمشروع.
تبقى مسألة إدارة المياه و قضية الأراضي و كذلك المشاكل و العقبات التي تقف في وجه تطبيق و تفعيل القانون، وهذا ما سنتعرض له في الحلقة القادمة والأخيرة من هذه السلسلة من المقالات.
الجزء السادس – الخاتمة
أوضحت الحلقات الخمس الماضية أن مشروع الجزيرة مرّ خلال سنواته الثمانين الماضية بعدّة مراحل. وقد انتظمت كل مرحلةٍ جوانبُ من التطورات و المتغيرات. و يمكن تقسيم هذه المراحل إلي أربعة:
أولاً: مرحلة نشأة المشروع و تطوره - 1925 – 1950
تم خلال هذه المرحلة وضع القواعد الأساسية التي تنظم العمل بالمشروع و تقنن علاقات الإنتاج به. و هذه العلاقات تميزت، فيما تميزت به، بالخلط بين نظامٍ رأسماليٍ و آخر اشتراكيٍ. برز النظام الرأسمالي في تركيبة الشركة الزراعية السودانية وطريقة إدارتها للمشروع. فالشركة شركة مساهمة مسجلة في الأسواق المالية في لندن و لها آلاف المساهمين من مؤسسات وأفراد يملكون فيها أسهماً و يتوقعون عائداً وفيراً منها كل عام. لذا كان هم الشركة الأساسي تحقيق أكبر قدر من الأرباح إرضاءً لهؤلاء المساهمين. و قد كان هذا هو السبب الأساسي الذي جعل الشركة تحمّل الزراع تكلفة الإنتاج بدلاّ من تحملها بواسطة الشركاء الثلاثة – الحكومة و الشركة و الزراع ــ، و تبذل قصارى جهدها في تقليل تكلفة الإنتاج و تعزيز أرباحها.
من الناحية الأخرى كان نظام العلاقات بين الزراع أنفسهم نظاماّ اشتراكياّ تكافلياً يتحمّل فيه الزراع كمجموعةّ تكلفة زراعة القطن و توزّع الأرباح عليهم بعد خصم التكلفة الإجمالية، و ليس الفردية، لزراعته. و لكن تحت هذا النظام استوى المزارع الدؤوب الجاد بنظيره الذي لا يملك نفس المقومات. إذن فقد كان إطار علاقات الإنتاج إطارا رأسمالياً و كان المضمون اشتراكياً تكافلياً.
تميزت العلاقة أيضاّ ببعدٍ انضباطي سلطوي أشبه ما يكون بالنظام العسكري. فالأوامر تصدر من موظفي الشركة للزراع في كل صغيرة و كبيرة تخص زراعة القطن بدءًا بإعداد الأرض، و استلام التقاوي و السماد، و متى تتم الزراعة و متى تتم إزالة الحشائش و كذلك أوقات الري و الرش و استعمال السماد و المبيدات و متى يتم جني القطن و تسليمه للشركة و استلام الأرباح، بعد خصم التكلفة. و ليس هنالك إشراك للزراع في تفاصيل أي من هذه العمليات، وليس لديهم بديلٌ غير إطاعة هذه الأوامر. و لتأكيد هذا النمط السلطوي فقد أعطت اتفاقية الإجارة بين الشركة و المستأجر الحق للشركة في القيام بأي من هذه الأعمال إذا فشل أىٌ من الزراع في القيام بها وتحميله التكلفة المالية كاملةّ، و قد انعكست ممارسة ذلك الحق في تطبيق ما عُرِف بين المزارعين بنظام "الطُلبة".
بعد أعوام قليلة من إدخال هذا النظام السلطوي لزراعة القطن بالمشروع بدأت بعض الثقوب تظهر فيه – ماذا يحدث إذا كان العائد للزراع ضعيفاّ أو لم يكن هناك عائد بسبب قلة الإنتاج أو ضعف الأسعار؟ جاءت الإجابة في تليين ذلك النظام قليلاً
بإعطاء الزراع حق زراعة الذرة واللوبية في مساحة صغيرة أخرى، و يكون الناتج كلّه حقاً للزراع، و لكن بدون تمويل من الشركة. فهذان المحصولان قُصِد منهما امتصاص عدم رضاء الزراع وأيضا تحسين التربة. و قد قامت الشركة أيضاّ في أواخر الأربعينات بإنشاء صندوق الاحتياطي لمساعدة الزراع في السنوات العجاف. غير هذا فقد ظل النظام السلطوي لعلاقات الإنتاج كما هو طوال هذه الفترة.
امتد هذا النظام السلطوي إلي إدارة الأراضي أيضاّ. فملاك الأراضي الذين أُعطوا أراضيهم أو جزءاً منها كحواشات أعطيت لهم هذه الأراضي تحت عقد إجارة نزع منهم كل حقوق الملكية، وأصبح هؤلاء الملاك أجراء لأرضهم تحدد لهم الشركة ما يجب أن يفعلوه في أرضٍ هي ملكهم. و قد كان الغرض وراء هذا الإجراء الغريب وضع أراضى المشروع كلها من الناحية القانونية و العملية تحت إدارة و سيطرة الشركة و تجريد الملاك من أي حقوقٍ تتصل بملكيتهم لهذه الأراضي. فالأجرة التي يتقاضاها هؤلاء الملاك أسقطت حقوقهم في الأرض و فرضت عليهم إطاعة أوامر الجهة التي تدفع لهم الأجرة.
ترسّخ هذا النظام السلطوي خلال ثلاثينيات و أربعينيات القرن الماضي و أصبح نظام العمل المعروف و المألوف بالمشروع حتى بعد أن انتهى عقد الشراكة و آلت إدارة المشروع لمجلس الإدارة السوداني. و كما ذكرنا فقد لعب العمل النقابي دوراً كبيراً في مشروع الجزيرة نتج عنه زيادة نسبة أرباح المزارعين، و لكنه لم يُحدث تغييراً ذا شأن في علاقات الإنتاج.
ثانياّ: مرحلة التوسع في المشروع – 1950- 1975
انتهى عقد الإدارة بين شركة السودان الزراعية و حكومة العهد الثنائي عام 1950 وانتقلت الإدارة في ذلك العام إلى مجلس إدارة مشروع الجزيرة. وقد صدر في ذلك العام قانون مشروع الجزيرة لعام 1950 والذي كان أول قانون ينظم العمل بصورة متكاملة في المشروع.
تسمى بعض الكتب والتقارير هذه النقلة بأنها "تأميم للمشروع"، و هذه التسمية ليست دقيقة لأن الأراضي و الخزان و القنوات بالمشروع لم تكن ملكاً للشركة حتى تؤمم، بل كانت ملكاً للحكومة، تديرها الشركة بمقتضى عقد إدارة انتهى ذاك العام ولم يتم تجديده. نتج عن هذا التغيير زيادة نسبة أرباح المزارعين و الحكومة بعد أن قلت نسبة أرباح مجلس إدارة المشروع. و زادت نسبة أرباح المزارعين مرّةً ثانية بعد ثورة أكتوبر ولكن هذه المرة على حساب نصيب الحكومة. عدا هذا فقد استمرت علاقات الإنتاج على ما كانت عليه إبان فترة إدارة الشركة للمشروع.
كانت مساحة المشروع قد وصلت إلى حوالي مليون فدان عام 1950، و كانت الدراسات الخاصة بامتداد المناقل قد قاربت الاكتمال. و في عام 1954 بدأت المفاوضات مع مصر بغرض السماح للسودان ببناء خزان الروصيرص لري امتداد المناقل. و رغم أنه تمّ الاتفاق بين السودان و مصر على بناء خزاني الروصيرص و أسوان، إلا أن الخلافات حول حصة السودان
ظلت عالقة و لم تحسم إلا بعد عام من وصول الفريق عبود إلى السلطة وتوقيع اتفاقية مياه النيل عام 1959. مع اكتمال خزان الروصيرص بدأ التوسع في امتداد المناقل و بلغت مساحة المشروع اثر ذلك مليون و ثمانمائة ألف فدان وتوسعت البنية التحتية من قنوات ري وطرق ومباني و ارتفع عدد موظفي المشروع بصورةٍ كبيرة. و صدر قانون مشروع الجزيرة لعام 1960 لينظم هذا التوسع. و بذاك التوسع أصبح مشروع الجزيرة من أكبر المشاريع في العالم تحت إدارة واحدة. و كما ذكرنا من قبل فالمشروع ليس أكبر مشروعٍ في العالم كما يعتقد الكثيرون. فهناك عدة مشاريع في العالم أكبر منه مساحةً.
ثالثاّ: مرحلة التدهور و البحث عن حلول - 1975-2005
مع هذا التوسع بدأت مشاكل المشروع في البروز إلى السطح. فقد بدأت البنية التحتية التي تمّ إنشاؤها قبل أكثر من أربعين عاماّ في التآكل والتدهور، و بدأت أسعار القطن العالمية في التدني و ارتفعت تكلفة الإنتاج بصورة حادة بسبب ارتفاع أسعار الوقود. وأزداد الوضع سوءاّ بسبب التقلب في السياسات الاقتصادية و الزراعية في السودان في السبعينات.
برزت أيضاً في هذه الفترة مشكلة الأراضي الملك الحر. فقد انتهى عقد الإيجار عام 1967 و طالب بعض الملاك بإعادة أراضيهم إليهم بينما طالب آخرون برفع قيمة الإيجار ليواكب الغلاء و تدهور الجنيه السوداني، و في بداية السبعينات توقف الملاك عن استلام الإيجار حيث أنه لم تعد له قيمة.
امتد التدهور ليشمل خزاني سنار والوصيرص. فبسبب كميات الطمي التي يأتي بها النيل الأزرق من الهضبة الإثيوبية فقد خزان سنار جزءاً كبيراً من إمكانياته التخزينية وبدأت هذه المشاكل نفسها تعترى خزان الروصيرص و قنوات الري بالمشروع، ولم تعد مياه الري تصل بعض الحواشات بسبب تراكم الطمي و الأعشاب في هذه القنوات.
تكونت في هذه الفترة عُدة لجان، الواحدة بعد الأخرى، لدراسة هذه المشاكل ومحاولة إيجاد الحلول لها. و قد كان من أبرز التوصيات توصية إلغاء نظام الحساب الجماعي واستبداله بالحساب الفردي و التي طُبقت عام 1981. أثار ذلك التغيير جدلاً حاداً في أوساط المزارعين والمهتمين بأمر المشروع، بين مؤيدٍ يرى في ذلك التغيير أملا في حلحلة مشاكل المشروع، و معارضٍ يرى فيه طعنةً لنظام التكافل الاجتماعي الذي ساد المشروع لأكثر من نصف قرن من الزمان.
و على الرغم من أن البنك الدولي والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية و مانحين آخرين قد مولوا إعادة تأهيل المشروع بمبلغ فاق المائتى مليون دولار، إلا أن هذا الجهد لم يكن كافياً لأن يعيد للمشروع فاعليته بسب عدم مصاحبته بالإصلاح المؤسسي. و لم يغير صدور قانون مشروع الجزيرة لعام 1984 شيئا في أمر هذا التدهور على الرغم من زيادة تمثيل المزارعين في مجلس الإدارة.
رابعا:مرحلة قانون 2005 وآثاره و مستقبل المشروع
اتسمت تقارير اللجان المختلفة التي كُونت للنظر في أمر مشروع الجزيرة بالاختلافات في مرتكزاتها و تحليلاتها لمشاكل المشروع، وعليه فقد اختلفت وتضاربت توصياتها. غير أن عددًا من هذه اللجان اتفقت على ضرورة إعادة النظر في مسألة الشراكة وأيضا على دور الزراع في علاقات الإنتاج خصوصا مسالة التركيبة المحصولية. في هذا الأثناء كانت مشاكل زراعة القطن آخذةً في الازدياد و أسعاره العالمية آخذة في التدهور.
عليه لم يكن أمراً مستغرباً بالنسبة للذين تابعوا تطورات و متغيرات المشروع أن يقوم قانون 2005 بإدخال و تقنين مبدأ حرية اختيار المحاصيل. هذا التغيير الجذري لم ينه فقط الارتباط التاريخي بين المشروع و محصول القطن و إنما أنهى أيضاً ما تبقى من محاور علاقات الإنتاج و قّلص بصورةٍ كبيرة دور مجلس إدارة مشروع الجزيرة فيما يختص بتمويل القطن و الإشراف على زراعته.
طُبق مبدأ حرية اختيار المحاصيل عام 2007 رغم صدور القانون في عام 2005، و نتج عنه انخفاضٌ حادٌ في المساحات المزروعة قطناً و زيادةٌ ملحوظة في المساحات المزروعة قمحاً و ذرةً، ولكن كان هناك انخفاض في المساحة الكلية المزروعة بالمشروع. فقد تمّ في موسم 2007 -2008 زراعة حوالي مليون ومائتي ألف فدان فقط من مساحة المشروع الكليّة البالغة مليونين و مائتي ألف فدان (أي أن المساحة المزروعة بلغت حوالي 55% فقط من مساحة المشروع). يُلاحظ أيضا الانخفاض في إنتاجية الفدان بالنسبة للقمح مقارنة بالموسم السابق من قرابة الطن للفدان في موسم 2006 – 2007 إلى حوالي ثلاثة أرباع الطن هذا الموسم. و يعود هذا الانخفاض في رأى مقدم الندوة إلى عوامل عدة تتلخص في التمويل و التسويق و الضرائب و نظام الري.
(*) بالنسبة للتمويل فإنّه بالرغم من وجود البنك الزراعي و بنك المزارع في أجزاء كبيرة من المشروع إلا أن التمويل لمزارعي المشروع ما زال ضعيفا. و مع التوقف عن زراعة القطن فسوف يتوقف التمويل من إدارة المشروع الذي كان مرتبطاً أساساً بالقطن. عليه فإنّ مسألة التمويل تحتاج لحلول سريعة و فعّالة. و يُؤمّل أن يلعب البنك السوداني الأردني المزمع إنشاؤه في ولاية الجزيرة دوراً قيادياً في التمويل بأن يكون بنكا تنمويا و ليس تجاريا.
(*) بالنسبة للتسويق فقد كانت شركة أقطان السودان تقوم بتسويق القطن و يقوم المزارع بتسويق المحاصيل الأخرى. و الآن مع حرية اختيار المحاصيل فلا بد من إيجاد سبلٍ لمساعدة المزارعين في تسويق هذه المحاصيل حتى يحصد المزارع ثمار جهده بدل أن تذهب هذه الثمار إلى الوسطاء سواءً كانوا بنوكاً أو شركاتٍ أو أفراد.
(*) بالنسبة للضرائب فقد بلغت ذروتها عام 1996م عندما قاربت نصف إنتاج المزارع. و على الرغم من إلغاء الكثير من
الضرائب المركزية، إلا أن الضرائب و الأتاوات و الجبايات الولائية و المحلية و كذلك رسوم الجمارك المركزية على بعض مدخلات و آليات الإنتاج عالية جداً مما جعل المزارعين يضجون بالشكوى منها . و قد أثيرت هذه المسألة عدة مرات في المجلس الوطني واللجان المختلفة التي أُوكل إليها أمر تطوير ونهضة الزراعة، وعليه لا بد من إيجاد حلول فورية و فعالة لها. لقد تم إعداد مجموعة من الدراسات حول مواضيع التمويل و التسويق و الضرائب و تم تقديم بعض هذه الدراسات خلال ورشتى العمل الخاصتين بمشروع الجزيرة اللتين عُقِدتا في العامين 2004م و 2005م. و تشمل هذه الدراسات مجموعة من المقترحات البناءة و التي يمكن الاستفادة منها في هذه المجالات.
(*) بالنسبة لنظام الري فقد أشار قانون 2005م إلى أن تسليم قنوات الحقل لروابط مستخدمي المياه يتم بعد تأهيل هذه القنوات، و هذا اعتراف واضح من القانون (والمسؤولين) بالوضع غير الفعال لهذه القنوات. إن قنوات الري هي شريان المشروع، كما يجب الإشارة إلى أن المشروع يستهلك سنويا حوالي 8 مليار متر مكعب من المياه من حصة السودان البالغة 18,5 مليار تحت اتفاقية مياه النيل لعام 1959م (أي أن المشروع يستهلك حوالي 40% من حصة السودان). و لكن الاستعمال غير المرشد و غير الكفء لهذه الكمية الكبيرة من المياه بسبب تدهور القنوات و مشاكل إدارة المياه سيظل عقبةً كبرى ليس فقط للمشروع و إنما للسودان نفسه في نقاشه و مفاوضاته مع الدول المشاطئة الأخرى لنهر النيل. و كما هو معروف فان هذه الدول بدأت تطالب بحقوقها في مياه النيل.
من ناحيةٍ أخرى فقد أشار مقدم الندوة د. سلمان إلى الدور الفعّال الذي تقوم به هذه الروابط في دولٍ كثيرة من العالم في إدارة مياه الري، و أوضح أنه في بعض الدول يتم تكوين اتحادات لهذه الروابط، و تقوم هذه الاتحادات بإدارة القنوات الكبرى و الرئيسية (وليس الصغرى فقط)، و تعرّض كذلك للوفورات التي نتجت في المياه و في تكلفة الصيانة والتشغيل إثر تولى روابط مستخدمي المياه لهذه المهام. و لابد من التأكيد أن هذه الروابط ليست سوى جمعيات تعاونية ينتخبها أعضاؤها بطريقةٍ ديمقراطية ويحاسبونها وفق اللوائح المنظمة للرابطة. و لابد كذلك من الإشارة إلى أن إدارة قنوات الري بواسطة هذه الروابط تحكمها اتفاقية مع وزارة الري و أن هذه الروابط ملزمةٌ بتطبيق بنود الاتفاقية.
(*)لابد من الإشارة هنا إلى مشكلة الأراضي الملك الحر في المشروع، و إيجاد حلٍ لها وفق قانون 2005م الذي اعترف بالملكية و سنّ نزْع هذه الأراضي مقابل التعويض العادل. إن توصيات لجنة 2003م تعرض حلاً وسطاً بين مطالب الملاك الشاسعة و تجاهل السلطات لهذه المشكلة و يمكن الرجوع إلي هذه التوصيات و الاهتداء بها. و لابد لذلك الحل إن يكون حلاً توفيقياً يأخذ في الاعتبار، أولاً، إن هذه الأراضي ملكٌ لأصحابها و أنهم لم يتلقوا عنها إيجاراً لأكثر من 35 سنةً، ثم ثانياً، و بالمقابل لابد من الأخذ في الاعتبار إن تلك الأرض كانت أرضا تروى بالإمطار ، و إن بعض أصحابها مُنِحوا حواشات و إن آخرين مُنِحوا إيجاراً لمدة 45 سنةً. فهاتان النقطتان لابد من اعتبارهما في أي سعيٍ يُرجى نجاحه في الوصول إلي أي صيغة توفيقية تخص معضلة الأراضي في مشروع الجزيرة.
و نختتم هذه المقالات من حيث بدأتاها. إنّ العالم يواجه اليوم أزمة غذاء حادة تتمثل في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية بسب قلة العرض. وقد تأثرت حتى الآن أكثر من 22 دولةً بهذه الأزمة، و يتعرض أكثر من مائة مليون نسمة في هذه الدول للجوع بسبب نقص الغذاء. و قد بلغت هذه الأزمة مداها عندما أوشك محصول الأرز على الاختفاء من الأسواق العالمية بسبب توقف الدول المنتجة (تحديدا تايلاند و الهند و الصين و فيتنام) عن تصديره. وقد ارتفع سعر الطن من الأرز خلال العام الماضي من 300 دولارً إلى حوالي 1000 دولارً. أما بالنسبة للقمح فقد قلت الكميات المنتجة في استراليا و الصين بسبب الجفاف و توقفت الأرجنتين و أوكرانيا عن تصدير القمح لفترة من الوقت وعاودت التصدير لاحقاً و لكن بكميات محدودة. نتج عن هذا إن تضاعف سعر الطن من القمح خلال العام الماضي من 200 دولار إلى حوالي 400 دولار. و قد حدث نفس الشيء بالنسبة للذرة الشامية و فول الصويا و انعكست هذه الزيادات في الأسعار كذلك على السلع الغذائية الأخرى.
لقد أوضحت الأمم المتحدة الشهر الماضي أن 29 دولةً قد أوقفت تماماً أو قللت بقدرٍ كبير تصدير المواد الغذائية خارج حدودها أو فرضت عليها رسوم جمركية عالية أو قيود أخرى مثل تحديد الكميات التي يمكن تصديرها. حاولت بعض الدول مثل اليابان و سويسرا اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية لإرغام هذه الدول على وقف هذه الإجراءات الحمائية و لكن اتضح أن معاهدة المنظمة لا تعطيها الحق في التدخل في مثل هذه الإجراءات، وأن كل ما تفرضه المعاهدة على هذه الدول هو أن تقوم تلك الدول بإخطار المنظمة نيتها في اتخاذ هذه الإجراءات لا أكثر. و كان قد اتضح من قبل محدودية إمكانية المنظمة في التدخل لوقف ذلك الدعم الضخم الذي تقدمه الدول الصناعية لمزارعيها والذي أفقد مزارعي الدول النامية القدرة على التنافس.
لقد بدأت الدول المختلفة تتعامل مع هذه الأزمة بشتى السبل. فقد قررت الصين، بسبب الجفاف والنمو السكاني و ازدياد الطلب على المواد الغذائية بازدياد الطبقة الوسطى، اتخاذ كل الإجراءات المطلوبة لرفع معدّل إنتاجية الفدان الواحد من طنٍ واحد للقمح لتصل الآن إلى قرابة الطن و نصف الطن من القمح للفدان، بينما اتخذت الكثير من الدول مثل الهند و المكسيك و الفلبين قرارات متعددة لترشيد استهلاك المياه في مجال الري. و تسارعت وتيرة الإصلاح المؤسسي لقطاعي الزراعة و الري في عددٍ كبيرٍ من دول العالم. و بسب شح المياه في كثير من هذه الدول فقد تركزت الجهود على تحسين أداء الأراضي المعمّرة أصلاً بدلاً من استصلاح أراضى جديدة تحتاج إلى استثماراتٍ ضخمةٍ و مياه جديدة قد لا تكون متوفرةً أصلاً.
إن مشروع الجزيرة بتجربته التاريخية الطويلة و الثرية، ومساحته الواسعة، و إمكانياته المتاحة الهائلة يستطيع ببعض الجهد و الإرادة السياسية أن يوفر للسودان احتياجاته الغذائية من القمح و أن يوفر لولاية الجزيرة احتياجاتها من الذرة، علي إن يكون ذلك وفقاً لمبدأ حرية اختيار المحاصيل للمزارع و الذي كفله قانون 2005م. فإذا استطعنا أن نرفع إنتاجية الفدان إلى 1,2 طن (و هذا متوسط إنتاج الفدان في معظم الدول) ونجحنا في زراعة ثلثي المشروع قمحًا فان هذا سيوفر احتياج السودان كله من القمح كاملاً، بينما يمكن إن يوفر الثلث المتبقي من أراضى المشروع احتياجات ولاية الجزيرة من الذرة والمواد الغذائية الأخرى.
ولكن هذا الحلم لن يتحقق إلاّ بإتباع السياسات السليمة فيما يتعلق بإدارة المياه (بعد تأهيل قنوات الري تأهيلاً كاملاً) و الضرائب و التمويل والتسويق، و توضيح ما تبقى من علاقات الإنتاج بين المزارعين و إدارة مشروع الجزيرة. وقتها سيجد المزارع ما يكفى من الحوافز لكي يضع جلّ طاقته في الإنتاج و يساهم مساهمةً فعّالةً في حلحلة مسألة الأمن الغذائي و التي هي بلا شك هاجس كل الشعب السوداني

ليست هناك تعليقات: