" الإجراءات التي أتخذها ليست إلا تدبيرا جذريا للإسراع في تفجير الحقيقة والوصول للعدالة".ولكن لدي شغف واحد: تنوير الذين تم حجبهم في الظلام، وباسم الإنسانية معاونة هؤلاء الذي عانوا الكثير ولهم حق التمتع بالسعادة.رسالتي رسالة احتجاج نارية وما هي الا مجرد صرخة روحي.دعوهم يتجرؤن ويجلبونني أمام محكمة قانونية، وليتم التحقيق معي في وضح النهار! " إميل زولا ،"إنى أتهم! "(1898)

الثلاثاء، مايو 25، 2010

قانون مشروع الجزيرة.. لماذا؟!

د. النذير قسم السيد آدم
* يحتدم الجدل هذه الايام في منابر كثيرة وتتصاعد وتيرته بصورة محمومة ونبرات مأساوية في كثير من جوانب فهمها حول قانون مشروع الجزيرة الذي تم طرحه بصورة اكثر إثارة للجدل، حتى وصل لمنضدة المجلس الوطني الذي انتهى اجله قبل شهور عديدة وتم تمديده بواسطة السيد رئيس الجمهورية، لدواعي إجازة اتفاقية السلام ودستور الفترة الانتقالية، وهى امور اتفق عليها اغلبية اهل السودان ويساندون انفاذ ترتيباتها.
* إن الجزيرة ومشروعها الكبير، لا يختلف حول دورهما التاريخي ومساندتهما الاقتصادية والاجتماعية الهائلة لجميع اهل السودان طيلة ما يزيد عن سبعة عقود من الزمان.. كما وأنها واهلها تحملوا وحدهم كل تبعات وويلات الانهيار والتدني في الانتاجية خلال العشرين عاماً الاخيرة.. وقد جانب الصواب الاخ صاحب العمود القامة، يوسف عبد المنان، عندما كتب خارج.. خارج النص ان كل اهل السودان دفعوا الضرائب وغيرها لصالح مشروع الجزيرة، والصحيح ان مشروع الجزيرة دفع عن الجميع ولسنوات طويلة كل شئ،ولم يقل فعلت.. وقد كان هذا هو الواجب.
* في هذا الموضوع مشاركة هادئة من احد أبناء الجزيرة.. احد أبناء المزارعين وملاك الاراضي، على امل المساهمة في استدامة استقرار مشروع الجزيرة وأهل الجزيرة لصالح كل اهل البلد ومستقبلها، وعلى أمل ان تفوت الفرصة لتنامي المشاحنات واندفاع الامور المستقرة نحو النفق المظلم وحافة الهاوية والانهيار.
* ان الجزيرة لم تتمرد يوماً في تاريخها على الوطن ولم تخرج عن طاعته ولم ترفع السلاح في وجهه ولن تفعل.. ولكنها حين فعلت كان ذلك في وجه المستعمر البغيض، وذلك في ثورة الشهيد البطل، عبد القادر ودحبوبة، والآن يحمل احد اهم الاقسام الانتاجية بالمشروع الذي انشأه المستعمر نفسه اسم ودحبوبة.
* عند قيام المستعمر البريطاني بإنشاء مشروع الجزيرة، وجد اهل الجزيرة هناك في الموقع ملاكاً للارضي.. رعاة فيها.. زراعاً لها مستفيدين منها منذ ازمان تمتد لبداية النشاط البشري في الارض.. اهل الجزيرة لم يتم تهجيرهم اليها مثل اهالي حلفا لمشروع خشم القربة، ولم يتم تجميعهم في قرى تحمل ارقاماً من حياة البداوة والترحال مثل اهل مشروع الرهد أو السوكي. إنهم أهل الارض والمكان الذين قدموا عطاءها بسخاء ولا زالوا رخيصاً لكل اهل السودان.
* مشروع الجزيرة ظل ومنذ قيامه بدون قانون ثابت، ولكن حكمه نظام صارم وفعال كان مستمداً من واقع ما ينتظم البلد في فترات الحكم المختلفة، وقد اقتبست من نظامه واهتدت به كل المشاريع التي قامت في البلد وخطت بثقة نحو النجاح، وكانت نظم المشروع تجد من الاحترام والتقدير ما يدفع بكل اموره نحو النجاح وتحقيق افضل النتائج لولا تدخلات السياسة وتعقيداتها المعروفة.
* أن يكون لمشروع الجزيرة قانون فهذا أمر مهم وحيوي، ولكن لماذا في هذا الوقت الحرج بالذات، ومعروف عنا نحن الشعب السوداني نتشكك وتصيبنا الريبة عندما تقدم كل سلطة لمناقشة أمر مهم أو تطرحه، للمداولة، فنقول إن وراء الاكمة ما وراءها.. إن بلادنا في هذه الايام والظروف تواجه أموراً جساماً واحداثاً تتطلب أن نتوحد ونتماسك لا لا ان تتشتت جهودنا وتركيزنا الفكري في أمور مقدور عليها في وقت لاحق، وقد أحزنني كثيراً حديث الأخ هجو قسم السيد، في المجلس الوطني والذي قال إنه لابد من إجازة هذا القانون الآن لأننا نملك الأغلبية الآن. إن مشروع الجزيرة لكل السودان وفي أى وقت لابد أن يجاز قانونه بنسبة مائة بالمائة إن كان يستوفي شروط أن يبقى مشروعاً قومياً، يحافظ على استقرار منطقة، وسكانها يمثلون خمس سكان السودان، يمثلون نموذجاً سودانياً بلا عصبية، يستقبل كل ابناء الوطن ويوفر لهم مكاناً ومعاشاً واستقراراً.
* لماذا يتركز الجدل حول هذا القانون في مسألة ملكية الأراضي، ولماذا يتركز فكر الناس ورأيهم في أن هدف هذا القانون هو حسم الأمور المتعلقة بملكية الأراضي والتي اصبحت عقدة الناس في هذا البلد الفسيح؟. أىن الحديث عن تطوير المشروع وعلاقات الانتاج والتمويل والبنيات التي إنهارت، والتي تقدر قيمتها بمليارات الدينارات من مرافق للري وسرايات ومساكن وسكة حديد وآليات وغيرها.
* لقد انهار دخل المزارعين من الزراعة وانخفض مستوى حياتهم وثقافة أهل الجزيرة الرائدة القائدة انحدرت لمستوى حضارة أهل العوض بسبب الاعسار وعدم الاستطاعة، وازدادت عنوسة النساء بسبب عدم القدرة على تحمل تكاليف الزواج ومابعده، وتدهور مستوى المدارس بالقرى وتراجع الترابط الاجتماعي والتكافل. كله بسبب انهيار الكفاءة الانتاجية للمشروع.
نريد قانوناً لمعالجة مثل هذه الاشياء وبدعم الدولة السخى.
* إن مشروع الجزيرة في الوقت الحاضر، لا يحتاج لقانون يثير جدلاً يقصم ظهر ما تبقى واقفاً. إنه بحاجة لمساندة الدولة.. المشروع يحتاج لتأهيل بنياته وتحديد علاقات الانتاج فيه.. المشروع يحتاج آليات التسويق الناجعة لانتاجه الوفير،ويحتاج لشفافية تحفظ حقوق المزارعين.. المشروع لا يحتاج لاتحاد للمزارعين فليترجل هذا المسخ المشوه.. من يصدق ان مؤسسة الاقطان وهى السمسار الموكول له تسويق القطن وبيعه مقابل عموله تساوي 3%، هى اغنى من المالك صاحب المحصول، وتسعى لتسليفه وتمويله.. افتحوا تحقيقياً حول مؤسسة الاقطان.. اسفارها.. حوافزها.. آليات تسويقها ومدى قناعة الناس بها وسترون العجب.. من يصدق أن المزارع لم يصرف حتى الآن ديناراً واحداً من ارباحه عن الموسم 2004م؟ وبقى على موعد زراعة القطن الجديد اسبوعان وإدارة المشروع التي اعدت حساباتها منذ زمن طويل لا تجد التمويل للدفع.. اين ذهب ثمن القطن الذي تم بيعه؟ واين ذهب ثمن آلاف اطنان البذرة؟. وقد تهكم علىّ احد الضباط الاداريين من كثرة تعلقي بأمور الزراعة بأن ميزانية آلية النظافة بولاية الخرطوم ودخلها هو اعلى من ميزانية ادارة مشروع الجزيرة فصدقته!!.
* إن اعظم ميزة في مشروع الجزيرة هى ان تخطيطه وتقسيمات قراه تمت بحيث لا تكون المسافة بين اي مزارع وحواشته اكثر من نصف كيلومتر إن لم تكن اقل، فكيف يتسنى له ولعائلته الابتعاد عن ارض توارثوها وخبروها لسنوات طويلة؟ ولاي سبب كان لصالح مستفيد آخر؟. من هنا يبدأ الاحتكاك والصدام، وبعده النتائج المأساوية المترتبة على الغبن الشخصي.
* إن الكثيرين من ملاك الاراضي هم في الحقيقة الآن مزارعون بالمشروع، فقد كان الملاك هم اول المستفيدين من تسجيل الحواشات لهم ولذويهم ولمن يوصون عليه، ولم تكن الحواشات في ذلك الزمن شيئاً يتم التهافت عليه. كانت تعرضك لاضطهاد المفتش الانجليزي وقسوته إن قصرت في العمل لأن الأهداف من إنشاء المشروع كانت تزويد مصانع لا نكشير بالاقطان، وكان المقابل يفي بالاحتياجات رغم كل شئ. كان ملاك الأراضي الأساسيون رجالاً كرماء، تملؤهم الشهامة والايثار وكان فرحهم بقيام المشروع كبيراً، وكان قبولهم بالفئة الأسمية لايجار الأرض وفق قانون أراضي الجزيرة لعام 1927م ولذلك فإن المطالبات التي تأتي اليوم من ملاك الاراضي والذين آلت اليهم عن طريق الميراث، ما هى الا حق شرعي يتحتم على الدولة أن تجلس معهم وتبحث عن صيغة مثالية لتعويضهم ورفع الضرر عنهم دون الاخلال بهيكل التخطيط للأراضي الزراعية في رقعة مشروع الجزيرة، وذلك بسبب أن تقسيمات الأراضي وخرائطها وتقسيمات مربعاتها التي كانت سائدة وقامت عليها حقوق الملكية المثبتة في كروت الاراضي، قد غطت عليها التقسيمات الخاصة بتخطيط الحواشات والترع وبنيات الري والادارة والقرى بطول المشروع وعرضه، ولم تعد كمرجعية أو وثيقة يهتدى بها مهندس مساح لاستخراج كروكي على الواقع، يحدد حيازة لأي شخص وقد فتتت المواريث الحيازات أىاً كانت ملكيتها الى مساحات صغيرة بسبب تواترها لنحو خمسة أجيال، وكمثال الحواشة التي كانت مساحتها عشرة أفدنة ويمتلكها مزارع واحد في الستينات، أصبحت اليوم يشترك في ملكيتها أكثر من عشرة أشخاص.
* إن أهل الجزيرة ومن هم بداخلها، هم الآن الملاك الحقيقيون للأرض وريعها يذهب لمجمل الوطن. لقد حازوا هذه الارض وتوارثوها منذ ما يقرب من مائة عام، فهل من مجال لمقارنة حيازتهم بنازح يحوز أرضاً في الخرطوم وضواحيها لمدة عامين أو ثلاثة، ثم تملك له وبشهادة بحث بعد اجراء مسح شكلي أو ضغط سياسي، ثم يقوم ببيع هذه الـ 400 متر بما يقارب ثمن شراء خمسة حواشات بالجزيرة، مساحتها الكلية أربعين فداناً تساوي مساحة 160 قطعة درجة أولى بالخرطوم؟. أىن هى قيمة أراضي الجزيرة؟ ويا لضعف موقف الزراعة في البلد الذي أدى لكل هذا التدني،علماً بأن ايجار شقة في الخرطوم لمدة عام يمكن به شراء حيازة ثلاثة مزارعين بالجزيرة للأبد.
* ان الحكومات الوطنية لم تنشئ مشروع الجزيرة، بل أضافت اليه حكومةا لفريق عبود امتداد المناقل. ثقتنا كبيرة بأن تقف حكومتنا الحالية موقفاً عظيماً ومشرفاً لصالح كل أهل السودان،ولإبقاء الجزيرة رصيداً وفندقاً للوطن وقرشاً ابيضَ في خزينة المالية لمجابهة المحن وكوارث الطبيعة، مثلما كان في ماضيه وحاضره، وذلك عن طريق النظر في الاقتراح الأتي:
1. اعتبار مشروع الجزيرة يستشرف عهداً جديداً من إعادة الانشاء والتطوير والتحديث لترقية الحياة في منطقة يسكنها خمس سكان السودان، ولها القدرة لاستضافة كل قادم اليها من كل نواحي البلاد.
2. انشاء مفوضية لأراضي الجزيرة برئاسة قاضي محكمة عليا، وعضوية تخصصات أخرى وممثلين للمزارعين والإدارة وملاك الأراضي.
- تقوم المفوضية بحصر أراضي الدولة لتعويض الملاك، وكل مالك يحوز حواشة داخل المشروع تقوم المفوضية بتسوية ملكيته وحيازته وتسجيل ملكية حواشته فوراً.
* تقوم الدولة بترتيب أمر تعويض الملاك في الوقت الحاضر أسوة بما هو حاصل في مشروع سد مروي وسكر النيل الابيض وغيرهما مثل مناطق البترول.
(-) يتم تسجيل الحواشات وملكيتها للمزارعين الحائزين عليها الان مقابل قيمة اسمية ورسوم تسجيل لا ترهق المزارع أو تكبله أو تؤدي لفقدانه الحواشة أو رهنها، على أن تحصل هذه القيمة والرسوم عن طريق حسابات ادارة المشروع من عائد انتاجه في القطن والذرة والخضروات وغيرها من المحاصيل الزراعية، وذلك تقديراً لدور هؤلاء المزارعين واسرهم واهليهم الذين التصقوا بهذه الارض وقدموا خيرها لكل الوطن، وعانوا ويلات الملاريا والبلهارسيا وغيرها مما هو متوطن في المشاريع الزراعية.
(-) بعد ذلك، يمكن للدولة اصدار قانون ينظم علاقات الانتاج والتمويل والتسويق وتطويرالبحوث الزراعية وتأهيل بنيات الري وتوفير مدخلات الانتاج، وتكون بذلك قد أدت دورها المرسوم والمتوقع لخدمة مواطنيها وكسب ثقتهم وتأييدهم ومساندتهم بعد ان منحتهم الأمان من الخوف والاطعام من الجوع بإذن الله، وسيبقى ذلك عملاً لا يضاهي يضاف لانجازات الدولة لا تشوبه شائبة ولا يغشاه غرض.
في خاتمة هذا المقال، أرجو ان أذكر ان مجمل أراضي الملاك قد لا تتجاوز الـ 600 ألف فدان،وعند تسوية حقوق الذين يحوزون حواشات الآن نجد ان المساحة المتبقية للتعويض في حدود 400 ألف فدان، وباقتراض وضع 500 ألف جنيه كتعويض عن الفدان، فإن المبلغ المطلوب يكون في حدود 20 مليار دينار، وهو مبلغ ضئيل اذا ما قورن بدخل اي محصول يزرع في الجزيرة لموسم واحد، وعلى سبيل المثال فإن محصول القطن للموسم 2003- 2004م، تم بيعه بأكثر من 180 مليون دولار، أي ما يعادل حوالي 50 مليار دينار، ومن هنا تظهر اهمية مشروع الجزيرة وقوة انسانه وتفانيه، ومن هنا نهتف: نعم للمحافظة على مشروع الجزيرة وتطويره ودعمه والمفاخرة به، ولا لاستهدافه بأي شكل أو اثارة الغبار حوله، فهو من ثوابت الوطن.
نسأل الله أن يوفق القائمين على الأمر، ويجعل سعيهم لخدمة الوطن موفقاً ومقبولاً..

ليست هناك تعليقات: